باسل النجار = الرياض في الأربعاء 22 نوفمبر 2023 11:39 مساءً - بمناسبة ميلاد فيروز ، اختارنا لكم الجانب الإنساني من “جارة القمر” فبيحكي صلاح عبد الصبور عن زيارته لفيروز في منزلها سنة ١٩٦٠ :
“وفى المساء كان الزميل صلاح جاهين وأنا في الطريق إلى بكفيا، حيث تقيم فيروز. وطوال الطريق الذي يخلع القلب صعودا وهبوطا، كنت أترنم في سري بقصيدة شوقي الخالدة في بكفيا، تلك القصيدة المليئة بالحياة والرقة، التي يحكي فيها شوقي قصة فتاة جميلة من بكفيا، غازلها على الطريق، فامتنعت عن مجاوبته، فلجأ إلى السلاح القديم الذي لا يخيب أثره، واتجه بغزله إلى فتاة أخرى، فالتهب قلب الجميلة بالغيرة.
بعد ساعة من رعب الطريق، وقفنا أمام بيت فيروز، ونزلنا. واستقبلنا الإخوان رحبانى.. منصور وعاصى. وأنا إلى الآن لا أعرف من فيهما منصور ومن عاصى رغم أنني قضيت في بيتهما ساعات طويلة، ولكن ما حيلتي! إن أحدهما يبدأ القصيدة والثاني يتمها، وأحدهما يدندن بالنغم، ثم يتوقف ليلقف الآخر النغمة الطائرة، ثم يدندن.
وصافحتنا فيروز، وهى تتمتم وجلسنا.
وفيروز ليست جميلة. إن جسمها صغير نحيل مثل جسم نجاة الصغيرة، لكن وجه نجاة أجمل. عينا نجاة حلوتان هادئتان. وعينا فيروز قاسيتان كأنهما محملقتان دائما. لكن الفن وحده جمال ليس بعده جمال.
وقلت لفيروز: لقد كنت أتمتم طول الطريق بقصيدة شوقى “وأغن أكحل من مها بكفيه”، وأتساءل: لماذا لا نغنيها أرق بنات بكفيا.
قالت فيروز: شوقى!! ونظرت إلى أحد الأخوين رحبانى وكأنها تسأله من هو شوقي. ومن جانبي جاءني صوت أحد الأخوين وهو يقول: شوقي.. نعم.. لقد كان شوقي يعشق لبنان وأهلها، وكان يزورها كل عام.. ثم التفت إلى فيروز، وقامت فيروز تحتفى بالضيوف.
وفاض علينا كرم الجبل، وقامت فيروز بدور “ست البيت”، ولكنها ست البيت الشرقية، التي تضع المائدة، وترص الأطباق والشوك ولكنها لا تجلس على المائدة.
ثلاث ساعات لم تنطق فيها فيروز إلا بثلاث كلمات، ونحن جميعاً، صلاح والإخوان رحبانى وأنا، ننشد الشعر بالدور، نتحدث عن الموسيقى والغناء، ونتناقش في موسيقى سيد درويش وعبد الوهاب، وصوت وديع الصافى، وصوت عبد الحليم، وهى – شاعرة الغناء – لا تتكلم. ومن وقت لآخر، كان صوت طبق يرفع من على المائدة، أو سكين تسقط على الأرض يرن كأنه نوع من الموسيقى التصويرية لحديثنا المحلق الطائر. ونلتفت ناحية الصوت، فإذا هي فيروز!
خرجنا إلى الطريق وصورة فيروز في وجدانى شاحبة. شاحبة جداً. وكان الافضل لى، ولخيالى، أن أظل أحس بها نغماً طائراً، وأن أتخيلها حديثاً عذباً وظلا رقيقاً ووجهاً ملائكياً.
وكنت عندئذ أفكر في عبدالوهاب الذي لا يشبع الإنسان من حديثه، وعبدالحليم الذي يعانق جميع من يعرفهم، ويوهمهم أنهم أعز أصدقائه، وأم كلثوم التي كانت شخصيتها الطاغية سياج فنها المعجز.
وخفت أن أكون قد ظلمت فيروز، وملت على صلاح جاهين أسأله: ما رأيك في فيروز؟ فقال: والله مش عارف”
(صلاح عبد الصبور، 1960)