باسل النجار = الرياض في الثلاثاء 23 يناير 2024 11:57 مساءً - كتب : محمد البرغوثى
فى عام ١٩٩٦ كنت أشغل موقع عضو مجلس تحرير مجلة نصف الدنيا التى كانت الكاتبة الكبيرة سناء البيسى ترأس تحريرها ، وكانت المجلة آنذاك تضم كتيبة من ألمع المحررين والمبدعين انتقتهم سناء البيسى بعناية فائقة. وكانت هذه الكتيبة تضم الصديق الشاعر أحمد الشهاوى الذى كان الشخص الثانى فى تسلسل القيادة بعد رئيسة التحرير مباشرة.والأصدقاء الراحل محمود الكردوسى و عبد اللطيف نصار وجمال غيطاس وعلى السيد وكمال عبد الحميد وحسن عبدالباسط وعمر طاهر.
آنذاك كنا نتواجد عادة قبل الظهر بقليل ونظل فى المجلة نكتب ونقرأ ونتناقش فى كل قضايا الكون حتى الثامنة مساء، وآنذاك لم يكن بيننا وبين المبدعة سناء البيسى أى حجاب، كنا ندخل مكتبها ونجالسها ونشاغبها ، وكانت أحيانا تترك مكتبها وتأتى إلى غرفة مجلس التحرير لتتحدث معنا فى تبويب العدد الجديد.
وذات يوم من عام ١٩٩٦ شعرنا بأن هناك شيئا غير عادى يحدث فى المجلة ، فالأستاذة جاءت إلى المجلة ودخلت مكتبها مباشرة دون أن تمر على غرفة مجلس التحرير كعادتها ، ومديرة مكتبها المرحومة نيرمين القويسنى اتصلت بنا تليفونيا لتخبرنا أن الأستاذة على موعد هام مع شخصية كبيرة، ورفضت الأستاذة نيرمين رفضا قاطعا أن تبوح لنا بمن تكون هذه الشخصية.
وكان أن اتصلنا بموظفى الاستقبال لنعرف من أحدهم أن إدارة العلاقات العامة بالأهرام أخطرتهم بأن الفنانة نجاة الصغيرة ستحل ضيفة على الأستاذة سناء البيسى الساعة الواحدة ظهرا.
بومها اعترتنى دهشة كبيرة : صحيح أن نجاة فنانة كبيرة ولكن الأهرام تستقبل يوميا فنانين ومبدعين مصريين وعرب وأجانب وتستقبل وزراء ورؤساء جمهوريات أيضا دون أن تحاط الزيارات بهذه السرية.
المهم جاءت نجاة، ودخلت مباشرة إلى مكتب رئيسة التحرير واستمر اجتماعهما المغلق معا أكثر من ساعة، وبعدها اتصلت بنا الأستاذة نيرمين لتخبرنا أن الأستاذة سناء فى انتظاركم ، ودخلنا لنسلم على الفنانة الكبيرة ، فإذا بنا أمام سيدة فى نهاية عقدها السادس تكاد تذوب خجلا وربما رهبة من تواجدها أمام ثلاثة صحفيين كل منهم يتمنى أن يفتح معها حوارا لاينتهى قبل أن يلامس آخر قطرة فى بحر موهبتها الفذة. وكان رعبها واضحا وهى تسأل الأستاذة سناء: حد منهم مصور؟.ولم تطمئن إلا بعد أن أكدت لها الأستاذة: التلاتة شعراء وكتاب ياحبيبتى ، ماحدش فيهم هيصورك.
لم يطل جلوسنا مع الفنانة نجاة أكثر من دقائق معدودة ، فقد أدركنا أننا أمام حالة خاصة لايصح معها ضغط أو جر كلام لاقناعها بإجراء حوار مطول مع المجلة.وبعد انصرافها عرفنا من الأستاذة سناء ان نجاة ترفض رفضا قاطعا إجراء أى حوارات أو الجلوس أمام عدسة مصور.
تذكرت هذا اللقاء وانا أشاهد ليلة أول أمس وقوف الفنانة نجاة على خشبة مسرح فخم فى السعودية لتغنى بطريقة البلاى باك واحدة من أعذب أغانيها وهى فى هذا العمر المتقدم -٨٨سنة – الذى لاتصلح فيه للغناء ولاتقوى فيه على السفر المرهق ولا الوقوف بفستان كهذا الذى ظهرت به أمام جمهور يعرف جيدا أنها تحرك شفتيها وذراعيها لتوحى فقط بأنها تغنى.
بعد أن انتهت الفنانة الكبيرة نجاة من هذا الأداء، انتابنى حزن شديد وكدت أسارع إلى إدانتها لولا أننى تداركت الأمر، فربما كانت هذه الفنانة الكبيرة فى أشد الاحتياج إلى المال أو فى أشد الاحتياج إلى الاحتفاء والتكريم ، وليس مهما من أى ناحية ولأى قصد سيأتى المال ، طالما أننا نعيش فى بلد أدركته مواكب التافهين الذين سدوا كل الآفاق فى وجوه المبدعين ، واكتفوا – فى دناءة مفرطة- بتكريم أنفسهم وإمعاتهم كلما حل مولد من موالد التكريم.