الارشيف / عالم الفن والمشاهير

ألان ديلون ..ظاهرة يصعب تكرارها

باسل النجار = الرياض في السبت 24 أغسطس 2024 12:01 صباحاً - ألان ديلون ..ظاهرة يصعب تكرارها - جريدة البشاير

كتب / د. أحمد البرزنجي

في حوار مع “باري ماتش” بمناسبة مرور ستّة عقود على بداياته، قال ألان ديلون: “الحياة ما عادت تعطيني شيئاً. عشتُ كلّ شيء، رأيتُ كلّ شيء. أكره هذا الزمن. أتقيأه. كلّ شيء أصبح زائفاً. لم يعد للاحترام وجود. لا قيمة لغير المال. طوال اليوم لا نسمع إلا عن جرائم. تقريباً، جلّ الذين أعرفهم ماتوا. أعلم اليوم أنني سأترك هذا العالم بلا أي شعور بالندم”.
هذه الكلمات اختصرت واقع ديلون في سنواته الأخيرة قبل رحيله مساء السبت الماضي عن 89 عاماً. بعد مشاكله الأسرية و شيخوخته التي عاشها بشيء من المرارة ، وجد هذا الممثّل الاسطورة نفسه يحن إلى الزمن الجميل الذي تألّق فيه ممثّلاً ونجماً ورمزاً. ديلون كان انعكاساً لزمنه، لوحة بيضاء كتب عليها السينمائيون كلّ أهواء حقبتهم التي تختلف شكلاً ومضموناً عمّا نعيشه اليوم. دولون صنعه هؤلاء الذين عرفوا كيف يجعلونه تجسيداً لاستيهاماتها وأوهامهم. انه، في هذا المعنى، انعكاس لزمن ولّى. لا يمكن القول ان رحيله يطوي شيئاً، فهذا الشيء طُوي قبل زمن بعيد. انه فقط غياب جسدي تنتفض معه الذكريات والتجارب التي عاشتها أجيال عدة داخل جدران الصالات المظلمة.
في 2019، أعاده مهرجان (كانّ) إلى الضوء، بعد انقطاع، ليسلّمه “سعفة” شرفية، رافقه عرض “موسيو كلان” (1976) لجوزف لوزي، وهو الفيلم الذي تولّى فيه الإنتاج والتمثيل. يومها ضحك، بكى، وقّع أوتوغرافات، تألّم كثيراً لدى رؤية صور الماضي المنبعثة من الشاشة. وزّع ابتسامات للجمهور، تذكّر النساء اللواتي دفعن به إلى الشاشة. أغوى الجميع رجالاً ونساءً، حدّ اننا استغربنا ان هذا الذي كان يائساً قبل قليل هو نفسه الذي يقف الان أمام الجمهور بابتسامة عريضة وبرضا لم يحاول ان يخفيه قط. كانت تلك آخر اطلالة فعلية له. بعد عرض مشهد من “شمس حارقة”، صاح ديلون للجمهور: “كيف تستطيعون النظر إليَّ اليوم، بعدما رأيتم كيف كنت في الماضي؟”.
في لقاء مع الجمهور، اعترف بما نعرفه جيداً: ديلون صنعه الجمهور. هو صنيعة سينمائيين بلا أدنى شك، لكنه أيضاً صنيعة مشاهدين من أنحاء العالم كافة، من أمريكا إلى اليابان، مروراً بالعالم العربي..في منتصف الخمسينات، جاء ديلون إلى (كانّ) للمرة الأولى. آنذاك، لم يكن يعرف شيئاً أو أحداً. بعد عودته من حرب الهند الصينية (حيث كان عسكرياً، أُغرمت به الممثّلة بريجيت أوبير (مثّلت في “القبض على لصّ” لألفرد هيتشكوك) ودعته إلى المهرجان. وسامته جذبت الأنظار. لولا لقاؤه بالسيدات اللواتي التقى بهن، لكان ميتاً منذ زمن بعيد. هذا ما كان يردده في مقابلاته هذا الفنان الذي أُلصِقت به صفة زير النساء. النساء حاربن من أجله، كي تبرز موهبته ويفلت بحضوره. كان ممتناً لهن حتى آخر عمره. أما هل كان لقي ذلك الاهتمام من العديد منهن، لو لم تنعم عليه الطبيعة، فتلك مسألة أخرى. للمفارقة، أول فيلم مثّل فيه ديلون الذي دخل التمثيل بالمصادفة، هو “عندما تتدخّل المرأة” (1957) لإيف أليغريه. يتذكّر ماذا قال له المخرج قبل بدء التصوير: “لا تمثِّل، تكلَّم مثلما تتكلّم في الحياة، انظر مثلما تنظر في الحياة، اسمع مثلما تسمع في الحياة، كن أنت، لا تمثّل، عش!”.
يبدو ان توجيهات أليغريه أضحت درساً له، اذ قال بعد سنوات: “لطالما عشتُ أدواري. لم أمثّل. الممثّل حادث. أنا حادث. حياتي حادث. حياتي المهنية حادث”.
لم يدرس ديلون التمثيل، وضعه أليغريه أمام الكاميرا، وهكذا كانت البداية. بقي أحد الذين يتحدّرون من سلالة طويلة من الممثّلين الغرائزيين الذين زخرت بهم السينما الأوروبية. الفطرة تتغلّب على العقل، الذكاء يستولي على المنهج والطريقة. أما الروح المعذّبة فهي الأرض التي تنبت عليها الأعشاب البرية والفاكهة.تسأله عن الكيفية والأنماط، لن يخبرك ما يفيد. في المقابل، لم يحتج إلى الكثير من الوقت كي يعي ان الوقوف أمام الكاميرا سيكون مصيره. كما لو كان “مكتوباً” له ان يمارس هذه المهنة. لم يحسّ بغربة تجاهها، كانت الكاميرا عنده “كإمرأة ينظر في عينيها”.
بعدها بعام، اختار بيار غاسبار ووي دولون الذي لم يكن له يوماً مدير أعمال يدير شؤونه، ليكون شريك رومي شنايدر في “كريستين”، قبل ان يطير صيته عالمياً في1959 عندما أُسند إليه دور البطولة في “شمس حارقة” لرينه كليمان. في البداية، رفضه، قبل ان يظفر بدور المجرم توم ريبلي الذي كان من المفترض ان يجسّده موريس رونيه. في ادارة كليمان، تعلّم دولون أشياء كثيرة، منها كيفية التحرك داخل الكادر. موهبته في تجسيد البطل المضاد لا تترك أي مجال للشك. من خلال سحر ريبلي وقدرته على التلاعب واستعداده لفعل أي شيء لتحقيق أهدافه، أكّد ديلون نزعة واضحة إلى الازدواجية واللبس. وجهه الملائكي لا يتقاطع مع السواد الذي يحمله في قلبه، ممّا يخلق توتراً ملموساً.
بعد خروج “شمس حارقة” إلى الصالات، شاهد لوكينو فيسكونتي الفيلم، وأراده فوراً لدور روكّو في تحفته”روكّووأخواته” 1960 ديلون، جيراردو، سالفاتوري، ثلاثة قدّموا فيه أفضل ما لديهم. التملّك الجسدي والذهني والحسّي الكامل عند فيسكونتي لأداة عمله، أي الممثّل، بلغ هنا أعلى مراتبه. فيلم آخر جمعه بفيسكونتي، “الفهد” (1963)، إلى جانب برت لانكستر وكلوديا كاردينالي. ملحمة اجتماعية يتداخل فيها العام بالخاص، الخفي يتشابك بالمعلَن، التفصيل الصغير يصارع اللقيات الدرامية الشاسعة. هذا كله على خلفية أحداث 1860 التي نتج عنها توحيد إيطاليا. أسند فيسكونتي إلى ديلون دور فالكونيري.
وللحديث بقية عن ألان ديلون .

جريدة البشاير اشترك في خدمة اهم الاخبار مجانا لاحقا موافق

Advertisements
Advertisements

قد تقرأ أيضا