- سيف الحموري - الكويت - الأربعاء 25 مايو 2022 11:06 مساءً - الاضطراب يسمح للهويات بأن تتبلور بعيداً عن الفكر المتجسد في التقسيم التقليدي للإنسان والحيوان
- أفلاطون رسم عالماً يعتمد على ثوابت مطلقة تفرض نمطاً للمعيشة يكون لكل شخص فيه دوره الثابت
آلاء خليفة
أكدت الأستاذ المساعد في الأدب الإنجليزي بالجامعة الأمريكية في الكويت د.حنان مظفر ان أدب الخيال العلمي يطرح نماذج عديدة للإنسان المختلف وغير الاعتيادي، سواء عن طريق تصوير مخلوقات شبه آلية فضائية، مصنعة ومدمجة أو غيرها من تلك الشخصيات الخيالية التي يتحفنا بها هذا الصنف من الروايات، لافتة الى انه ينتج عن ذلك رسم لهويات تصنفها كهويات مضطربة، كونها لا تنتمي إلى مفهومنا المعاصر للإنسان.
جاء ذلك خلال محاضرة قدمتها مظفر بعنوان «أدب الخيال العلمي والهويات المضطربة» ضمن ملتقى تكوين الثالث والمنعقد تحت شعار «تساؤلات الهوية.. من نحن؟ وما الذي يمكننا ان نكونه؟» والذي تنظمه مكتبة تكوين بالتعاون مع المجلس البريطاني ومنصة الفن المعاصر وبرعاية إعلامية من «الأنباء»، حيث عقدت الحلقة النقاشية بحضور مؤسسة مكتبة تكوين الروائية بثينة العيسى ومدير عام منشورات تكوين الشاعر محمد العتابي وعدد من الأدباء والمثقفين.
وقالت مظفر: هذا الاضطراب كما تدعي الناقدة دونا هاراواي، يسمح لتلك الهويات أن تتبلور بعيدا عن الفكر المعاصر المتجسد في التقسيم التقليدي للإنسان والحيوان، الإنسان والآلة، الرجل والمرأة، العقل والعاطفة، وغيرها من التقسيمات التي تفرض سلطة الأول على الآخر، والتي ينتقدها فوكو في كتاباته، وأركز هنا على إحدى هذه الهويات الخيالية المرسومة في ثلاثية مارغريت آتوود ومادآدامز، التي تجعلنا نتساءل إن كان تقدمنا التكنولوجي وسيلة للارتقاء بالإنسان ولتحرير هوياتنا من المنظومة التقليدية، أم إن كان هذا التقدم ينذر بإزالة الهوية الإنسانية تماما، وفرض هويات من شكل آخر، سليم منها أو مضطرب، مشيرة إلى العالم الافتراضي الذي رسمه أفلاطون قائلة: في عام 400 قبل الميلاد، عندما اتهم أستاذ أفلاطون المحبب الفيلسوف سقراط، بإفساد الشباب وتدهورت حال مدينته أثينا لما كان يراه من انحلال سياسي، قرر أفلاطون التخلي عن السياسة والتحول نوعا ما إلى الخيال، وذلك بتصوير جمهورية انفصلت عن كل ما أدى إلى انحلال مدينته، جمهورية خيالية تلتزم بعدالة لم يكن يراها في عالمه الواقعي، وتنظر للعدالة على أنها الغاية الأسمى التي يجب أن نطمح إليها، والحقيقة الثابتة هي الوسيلة لتحقيق هذه الغاية.
وأضافت: كان أفلاطون قلقا من المتغيرات في عالمه، فرسم عالما يعتمد على ثوابت مطلقة تفرض نمطا للمعيشة يكون لكل شخص فيه دوره الثابت الذي لا يتغير وأصبح الشكل الوحيد المقبول للعلم هو الشكل الثابت الذي لا يتأثر بتغيرات المجتمع والوقت والموقع والمنظور وأصبح لكل فرد هوية محددة تصف عمله ودوره في المجتمع، أو المدينة، دورا ثابتا أيضا لا يتغير، يلائم واقعه المثالي «الخيالي» أيضا، لافتة إلى ان هذا التصور أدى إلى رؤية الواقع المثالي باعتباره أعلى شكلا من الواقع، واستخدم كلمة «مثالي» هنا كترجمة لـ «ideal».
المدينة الفاضلة
وتابعت: مشكلة المدينة الفاضلة إنها بعيدة عن الواقع، مع أنها مبنية على الاعتزاز بالحقيقة المطلقة، وتفرض قواعد فاصلة بين نقيضين متضادين تعلو قيمة أحدهما على الآخر، ولأن هذه المدينة أو الرؤية غير واقعية، جاء الفلاسفة بعده ينتقدون فكره، ومن أبرزهم نيتشه ودريدا، إلا أن مدينة أفلاطون رغم انتقاد فكره، نتج عنها تقليد لكتابة روائية تبحث في احتمالات الدولة المثالية التي تحدد بوضوح هذه المصطلحات والهويات، والوظائف المتعارضة من حولها فأدت جمهوريته إلى ظهور سلسلة من روائع الأدب التي تدرس الإمكانيات المتاحة في المستقبل، وبالأخص تلك التي بدأت في الظهور في القرن التاسع عشر الذي اشتهر بالتطورات التكنولوجية، وابتعاد الإنسان نوعا ما عن الحياة الطبيعية، وأهمها عندما قامت ميري شيلي بتقديم العالم فرانكنشتاين الذي جمع أجزاء من الجثث وبث فيها الحياة بطريقة ما، فصنع أول إنسان آلي أو ما يسمى الآن «السايبورغ».
وزادت: تعتقد دونا هارواي أن للإنسان المصنع أو «السايبورغ» إمكانية للهروب من عالم ثنائيات أفلاطون، وبذلك لطرح مكان للتفكير في المرأة بعيدا عن سلطة الرجل، وتشاركها في هذا نوعا ما جوديث بتلر التي تشجع على ما تسميه gender trouble أو «غربلة الجنس» أو «الجندر»، وفي هاراوي كما هو في بتلر الإيديولوجية الثنائية هي من تصنع ما يدمرها من الداخل عندما تولد أنماطا مغايرة للهوية، لا تنتمي إلى الثنائيات التي هي أساس فكرها وهذه هي الأنماط المضطربة، وبالنسبة لهاراواي وبتلر، فإن بناء هذه المخلوقات الأدبية وإن كانت خيالية يوفر مكانا لتفكيك الهوية القائمة على الثنائيات واليقين.
وذكرت مظفر ان ما تقترحه آتوود هنا أن في تدوين الأشياء ثبات لحالها وبذلك فهي شبه عودة إلى عالم أفلاطون الثابت الذي لا يقبل المتغيرات، مضيفة ان توبي استطاعت منح «crakers» هوية ما لأنها تملك القدرة على رسم أشكال متنوعة ومتغيرة للقصص التي تسردها عليهم والذي بدأ في سردها سنومان، فتصبح بذلك الهوية وأساس الفكر هنا هي الهوية النسوية أو الذكورية تصبح ثابتة لا تقبل التشكيلات أو الاضطرابات التي ترى فيها هاراوي وبتلر نجاة للبشرية نوعا ما، ويقول الراوي في هذا الجزء: «ما الذي فعلته؟ ما هذا الباب الذي فتحته؟ إن هؤلاء الأطفال سريعو التعلم، وسرعان ما سيلتقطون فن الكتابة هذا ويعلمونه لغيرهم ما الذي سيأتي بعد ذلك؟ القواعد؟ العقائد؟ القوانين؟ إنجيل كريك؟ كتب يطبعونها دون أن يهتموا بتفسيرها؟ لقد جنيت عليهم».
الهويات المضطربة
ولفتت الى ان آتوود حذرت من خطورة ثوابت الأمور التي قد تتيحها الكتابة التي تسير في طريقها المعروف نحو الحروب الدينية، مبينة ان دراسات ما بعد الإنسان تصور لنا نسخة جديدة من الإنسان، وتردد عنوان مؤتمرنا هذا «من نحن وماذا يمكننا ان نكون؟» فهل يجب أن يقلقنا ما بعد الإنسان هذا؟ هل عالم ما بعد الإنسان نهاية إنسانيتنا أم بداية أمل، يمكننا أن نتعلم فيه كيف نتكيف بشكل أفضل مع العالم حتى لو عنى ذلك أن نصبح أقل إنسانية أوعلى الأصح نصبح بشرا من نوع آخر؟ أم هل نحن فعلا حبيسو منظوراتنا الفكرية التي سنتوارثها ونورثها للأجيال اللاحقة فيصبح الهروب من الفكر الاضطهادي شيئا مستحيلا؟ لا أقترح إجابات طبعا، ولا أعتقد أن أتوود تقدم حلولا أو تقترح اتجاهات ثابتة بشأن ما بعد الإنسان، فلقد جادلت نفسها بأن كتابها يطرح أسئلة بدلا من تقديم إجابات، مشيرة إلى ان في الثلاثية يقترح عرضها لموضوعات ما بعد الإنسان مزيدا من التحقيقات حول ما هو الإنسان والاحتمالات البديلة للإنسانية، من خلال هذه التحقيقات، تقدم الثلاثية لقرائها طريقة جديدة لتفكيك الأيديولوجية الغربية، وتقديم نموذج لمحاولة التراجع عن الدمار الذي لا مفر منه في عالم يؤمن بسيادة مفهوم على آخر، الرجل على المرأة، العلم على الفن، نتذكر من خلال هذا النموذج القيمة المرجعية للغة والمعنى، يمكن اعتبار الثلاثية بمنزلة تذكير بعدم السماح لشكوكنا في أيديولوجياتنا الحالية بأن تقودنا إلى تفكيك سريع وساذج لهذه الأيديولوجيات.
وأوضحت انه قد يكون في الهويات المضطربة، مثل هويات «الكريكرز» وغيرها من «السايبورج» أو الهويات المصنعة والمدمجة، لها القدرة على التحرر من ثوابت الأمور التي استعان بها أفلاطون لخلق عالمه المثالي الذي يعتمد على ثنائيات مضادة، حتى وإن كان تحريرا مؤقتا، وكما في تحليلي لهذه الرواية، فإنني دوما حذرة من تحديد معان ثابتة للنصوص، دوري، كما أكرره لتلامذتي، هو ليس دور المحلل الذي يستشف معنى الرواية، بل دور الناقد الذي يبحث عن المعاني المختلفة بل والمتضاربة أحيانا في الرواية، والأدب لديه تلك القدرة لتحريرنا من فرض معنى معين أو رسم هوية ثابتة، مؤكدة على ان الهوية المضطربة سواء تلك التي أجدها في أدب الخيال العلمي أو غيره هي هوية لها القدرة على التحرر من عالم أفلاطون الثابت والذي ينتج عنه اضطهاد صنف لصنف آخر بحجة أفضلية الصنف الأول، فالهويات المضطربة هويات رابحة في هذا السياق، لأنها غير محددة بتصرف معين وأداء ثابت، تهرب من القمع وتساعد غيرها على ذلك.