الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

شعر العصر الإسلامي.. ذاكرة الخلفاء وتنافس الأمصار في الدراية والتوثيق.. بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 2 يونيو 2022 10:32 مساءً - حكايات تدلل على صلة الحكام بتاريخ أمتهم وأخبار من سبقوهم من شعراء ورواة وعلماء
  • اهتمام الكبار برواية الشعر وما يدل على المعاني الشريفة وإعجابهم به بصفته تراثاً
  • التنافس بين الأمصار جعلها منارات للعلم والمعرفة ودلنا على أفذاذ في مختلف المجالات


بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

يلاحظ المتتبع لأخبار الشعر والشعراء - في دنيا العرب - منذ بداية العصر الإسلامي ملاحظتين مهمتين، أولاهما:

حفظ الخلفاء للشعر، والتمثل ببعض الأبيات منه، وذلك بذكر نماذج منه كلما دعت الحاجة، خاصة فيما يتعلق بالأمور العامة التي لا علاقة لها بمقتضيات الشريعة، وما تقرر فيها، لأن القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم مصدران للتشريع وللسلوك العام في الحياة ضمن مجتمع يسوده هذا الدين الحنيف.

لذلك، فقد وجدنا من أولئك الخلفاء من يهتم بالشعر ويروي بعض ما ورد منه ما لا يخرج عن طبيعة المجتمع المسلم، وليس على هذا أي اعتراض، لأن الشعر كان - ولا يزال - جزءا من الثقافة العربية المتحدرة من أصولها البعيدة.

أما ثاني الملاحظتين فهو التنافس الذي كان قائما بين الأمصار الإسلامية - بعد استقرار دولة الإسلام - في مجال الدراية بأحوال كل مصر وأهله، ومن فيه من العلماء والأدباء والشعراء، ومن يعيش فيه من القبائل العربية، وما تحدث فيه من أحداث.

وحول هذين الأمرين تأتي هذه المسامرة:

أ‌ - هذه حكاية عن حادثة لها تاريخ مكتوب وارد في كثير من كتب العرب، منها كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني، وكتاب خزانة الأدب للبغدادي، وكتاب أمالي المرتضى المسمى: غرر الفوائد، ودرر القلائد» للشريف علي بن الحسين الموسوي العلوي، وهو المعروف باسم: الشريف المرتضي».. وهي كتب تتيح لنا رؤية صورة لمجلس من مجالس الخلفاء الأمويين، موضحة ما كان يدور فيه من مباحث، وأحاديث متداولة ومتبادلة فيها استذكار لكل ما جرى، وعودة إلى المأثور مما قاله حكماء العرب وشعراؤهم. إنها حكاية تدل - في الوقت نفسه - على مدى الصلة التي تربط أولئك الخلفاء (الحكام) بتاريخ أمتهم، وأخبار من سبقهم من شعراء ورواة وعلماء وغيرهم.

تقول الحكاية:

«كتب الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف الثقفي وكان والياً له على العراق - آنذاك - رسالة ورد فيها: إنه ليس شيء من لذة الدنيا إلا وقد أصبت منه، ولم يبق لي من ذلك إلا مناقلة الإخوان الأحاديث، وقبلك (عندك) عامر الشعبي، فابعث به إليّ يحدثني».

فلبّى الحجاج طلب الخليفة على الفور ودعا إليه الشعبي وجهزه، ثم أرسله إلى الخليفة بعد أن زوده برسالة يطريه فيها ويذكر ما لديه من علم.

وبدأ الشعبي رحلته حتى وصل في النهاية إلى مقر الخليفة، فقال للحاجب: استأذن لي. قال: من أنت؟ قال: عامر الشعبي، فقال الحاجب: حياك الله، ثم دخل وخرج بعد قليل قائلا للشعبي: أدخل.

وتقول رواية هذا الرجل: «فدخلت فإذا عبدالملك جالس على كرسي، وبين يديه رجل أبيض الرأس واللحية، على كرسي، وسلمت فرد السلام، ثم أومأ بقضيب في يده، فقعدت عن يساره، ثم أقبل على الذي بين يديه فقال: ويحك!! من أشعر الناس؟ قال: أنا يا أمير المؤمنين.

قال الشعبي: فأظلم ما بيني وبين عبدالملك، ولم أصبر إن قلت: ومن هذا يا أمير المؤمنين الذي زعم أنه أشعر الناس. فعجب عبدالملك من عجلتي قبل أن يسألني عن حالي. ثم قال: هذا الأخطل.. قلت: يا أخطل أشعر منك الذي يقول:

هذا غلام حسن وجهه

مستقبل الخير سريع التمام

للحارث الأكبر والحارث ال

أصغر، والحارث خير الأنام

خمسة آباء هم ما هم هم خير

من يشرب صوب الغمام

فقال عبدالملك: ردها علي، فرددتها حتى حفظها.

فقال الأخطل: من هذا يا أمير المؤمنين؟ فقال: هذا الشعبي، فقال: صدق والله، النابغة أشعر مني.

ثم أقبل علي عبدالملك فقال: كيف أنت يا شعبي؟ قلت: بخير ما زلت به. ثم أقبل علي وقال: ماذا تقول في النابغة؟

وهنا يأتي ما أشرنا إليه سالفا عن اهتمام القادة المسلمين بالشعر وأخبار العرب، وذلك يتمثل في رد الشعبي على السؤال الآنف ذكره، وهو قوله:

يا أمير المؤمنين قد فضل عمر بن الخطاب النابغة على جميع الشعراء في أكثر من موضع. وذلك أنه خرج يوما وببابه وفد غطفان. فقال: يا معاشر غطفان، أي شعرائكم الذي يقول:

حلفت فلم أترك لنفسك ريبة

وليس وراء الله للمرء مذهب

لئن كنت قد بلغت عني خيانة

لمبلغك الواشي أغش وأكذب

ولست بمستبق أخا لا تلمه

على شعث، أي الرجال المهذب

قالوا: النابغة، قال: فأيكم الذي يقول:

فإنك كالليل الذي هو مدركي

وإن خلت أن المنتأى عنك واسع

خطاطيف حجن في حبال متينة

تمد بها ايد إليك نوازع

قالوا: النابغة، قال: أيكم الذي يقول:

إلى ابن محرق أعملت نفسي

وراحلتي، وقد هدت العيون

أتيتك هاربا خلقا ثيابي على

خوف تظن بي الظنون

فألفيت الأمانة لم تخنها

كذلك كان نوح لا يخون

قالوا: النابغة. قال: هذا أشعر شعرائكم.

ويواصل الشعبي حديثه فيقول:

ثم أقبل عبدالملك على الأخطل، فقال: أتحب أن لك قياضا (مبادلة) بشعرك شعر واحد من العرب؟ أم تحب أنك قلته؟ فقال لا والله، إلا أني وددت أن كنت قلت أبياتا قالها رجل منا كان والله خامل الذكر قليل السماع، قصير الذراع.

قال: وما قال؟ فأنشده:

إنا محيوك فأسلم أيها الطلل

وإن بليت، وإن طالت بك الطيل

ليس الجديد به تبقى بشاشته

إلا قليلا ولا ذو خلة يصل

والعيش لا عيش إلا ما تقربه

عين، ولا حال إلا سوف تنتقل

والناس من يلق خيرا قائلون له

ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل

قد يدرك المتأني بعض حاجته

وقد يكون مع المستعجل الزلل

وتدخل الشعبي في الأمر، فقال للخليفة: قد قال القطامي أفضل من هذا. قال: وما قال؟ فأنشده القصيدة التي يبدأها الشاعر القطامي بقوله:

طرقت جنوب رحالنا من مطرق

ما كنت أحسبها قريب المعنق

حتى أتمها، وقد أعجب بها عبدالملك بن مروان كل الإعجاب. ثم جرى الحديث حول مجالات أخرى من مجالات الشعر، ومن ذلك ما أثاره الخليفة عن الشاعرات العربيات، وقد بدا أن عبدالملك ملم إلماما واسعا بهذا الأمر، ومثل لذلك بأبيات من الشعر طرب لها الشعبي، وصعب عليه في ذلك الموقف أن لم يكن قدم الأبيات التي ذكرها الخليفة فهي أجود، وأدل على قوة الشعر، وكانت المنافسة بين شاعرتين هما: الخنساء وليلى الأخيلية، وهما معروفتان بجودة الشعر، وطلاقة اللسان العربي المعبر.

وقد لوحظ الوضع الذي صار الشعبي إليه في هذه المنافسة الأدبية، فقال له: «يا شعبي، لعله شق عليك ما سمعته» فرد قائلا: إي والله يا أمير المؤمنين، أشد المشقة، إني لمحدثك منذ شهرين لم أفدك إلا أبيات النابغة في الغلام.

فرد الخليفة على ذلك بقوله: «يا شعبي، إنما أعلمناك هذا، لأنه بلغني أن أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، ويقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة، فلن يغلبونا على العلم والرواية عن الأوائل. وأهل الشام أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق».

وإلى هنا انتهى هذا اللقاء.

ومما يجدر بنا ذكره الآن هو الإشارة إلى بعض الملاحظات التي نستوحيها من هذا اللقاء الذي تم في حضرة الخليفة المذكور وهذا يمكن إجماله فيما يلي:

- عندما نقرأ اليوم حديث ذلك المجلس فإننا نستطيع الإشارة مرة أخرى إلى ما سبق لنا أن أشرنا إليه وهو اهتمام الكبار برواية الشعر، خاصة منه ما يدل على المعاني الشريفة.

وإعجابهم به بصفته تراثا يوحي بقيمة الأمة التي نشأ فيها أولئك الشعراء، وهذا يبدو في ما نقله الشعبي عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه مما سبق لنا ذكره.

- إقرار الأخطل التغلبي بأن النابغة الذبياني أجود منه شعرا وأكثر نباهة، على الرغم من الطباع المعروفة لدى الأخطل في شدة اعتداده بنفسه وبشعره، وهذا واضح في التهديد الذي أوحى به للشعبي حين قال له في ذلك المجلس: «يا شعبي إن لك فنونا من الأحاديث وإن لنا فناً واحداً، فإن رأيت ألا تحملني على أكتاف قومك» وهذا ما جعل الشعبي يعتذر إليه حتى لا يعرض قومه للمساءة.

- ثم إننا قد تبينا فيما سلف من الحديث شيئا عن التنافس بين الأمصار الإسلامية حول المسائل الثقافية.

فقد كانت ردود عبدالملك بن مروان، واختياراته الشعرية جيدة وتفي بالغرض وتشير إلى هذه المنافسة، وهذا ما جعل الشعبي يلتفت معجبا ثم أخذه الوجوم، ولكنه أفاق إلى نفسه بعد أن قال له الخليفة ما قال.

- ومما لابد من ذكره هنا أن هذا التنافس الذي أشرنا إليه كان ذا فائدة كبرى بسبب المجالات التي كانت موضع ذلك.

فقد جعل عواصم الأمصار الإسلامية منارات للعلم والمعرفة، وعرفنا من أهلها علماء أفذاذ في مختلف العلوم حتى كان ذلك واضحا في العصور اللاحقة لزمن الخليفة عبدالملك بن مروان. ولقد برز بذلك عدد كبير من العلماء في مختلف العلوم، ولا تزال كتبهم التي ألفوها مقروءة إلى يومنا هذا.

فقد جاءنا من مصر كتاب «لسان العرب» لابن منظور، ومن الأندلس كتاب «نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب للمقري، إلى جانب عدد كبير من كتب الطب والرحلات والتاريخ وكلها كان لها أثر لا في البلاد الإسلامية وحدها بل لقد درست هذه الكتب في أوروبا في بدايات نهضتها، كما تسنى لنا الحصول على كتب قيمة منها «الأغاني» لأبي الفرج الأصفهاني، وتاج العروس للزبيدي، إضافة إلى الكتب الخاصة بالتفسير والحديث والاختيارات الشعرية، ودواوين الشعراء.

ولقد كان التنافس سببا من الأسباب التي أوصلت إلينا هذا الإنتاج الرائع في مختلف مباحث العلوم.

ومع ذلك فقد كانت بين أولئك المختصين صلات رائعة، واحترام متبادل، حتى صرنا نقرأ عن رحلاتهم واستماع بعضهم إلى بعض في جلسات علمية راقية.

وبعد كل ما تقدم، فإنه من المهم أن نشير إلى أمرين، أولهما هو حديث الشعر الذي ذكر في ذلك المجلس، وثانيهما: ما يتعلق بالأسماء التي كان أصحابها في مجال الحديث.

أولا: في الأبيات الأربعة الأولى يذكر النابغة مولودا للنعمان بن الحارث. ولفظ صوب: يقصد به المطر.

وفي الأبيات التي جاءت بعد ذلك ما هو ضمن قصيدة وجهها النابغة إلى النعمان يعتذر إليه. وفي البيت الثالث منها حكمة بليغة من حكم هذا الشاعر، وذلك حين وجّه فيها الدعوة إلى الاحتفاظ بصداقة المخلصين مهما صدر منهم من خطأ لأن الإنسان غير معصوم.

ويتضمن الاختيار الثالث بيتين من قصيدة النابغة يوجه بهما الاعتذار إلى النعمان ويبدي مكانته فيقول في البيت الثاني: إنك تدركني مهما بعدت عنك. كأنك تمتلك أكثر من خطاف أعوج متصل بحبال قوية مما تسحب به الدلاء من الآبار.

- أما أبيات النابغة الثلاثة الأخيرة ففيها اعتذار آخر إلى ملك الحيرة، يطلب فيها الأمان والصفح. ويقول له: لقد أتيتك هاربا ألبس الخَلَق من الثياب. ولفظ الخلق معناه في الفصحى وعامية الكويت واحد وهو: القديم المهترئ.

- أما أبيات الشاعر القطامي الخمسة ففيها تحية للأطلال، ودعاء لها بالسلامة وإن طال بها العهد مع ذكر بعض الحكم التي أبدع القطامي في سردها.

وأما قصيدته الثانية التي ذكرنا مطلعها فهي قصيدة طويلة فيها كثير من التنوع، وقد بدأ فيها كما رأينا بالغزل ومعنى البيت الأول الذي استشهد به الشعبي مرتبطا بالغزل كعادة غيره من شعراء عصره.

ثانيا: وهنا نعود إلى ذكر الأسماء الواردة في الأبيات المختارة وما دار حولها من تعليقات بحسب ترتيبها، كما يلي:

أ‌ - الخليفة عبدالملك بن مروان بن الحكم، ولد في سنة 26هـ، وتولى الخلافة بعد وفاة أبيه في سنة 65هـ، وتوفي سنة 86هـ التي تعادل سنة 705هـ.

كان من أعظم الحكام، وهو محيط بأعمال البلاد الإسلامية، بتمكُّن ساعده عليه دهاؤه.

كان ذا هيبة، وقد اجتمعت عليه كلمة المسلمين واستطاع القيام بتعريب السجلات وأصدر الدينار الإسلامي لأول مرة.

وكانت مجالسه الخاصة مجالس أدب ومعرفة، وكان يحب الاستماع إلى الرواة (مثل الشعبي) ويبادلهم المعلومات، فهو ملم بكثير مما يعرفونه.

ب‌ - الحجاج بن يوسف بن الحكم الثقفي، من القادة ذوي الدهاء والإقدام، والحرص على حفظ الدولة مهما كلفه الأمر. وكان خطيبا مفوهاً.

ولد وعاش في بداية حياته في الطائف في سنة 660م، وتوفي في سنة 714م. وله أعمال كثيرة، وأخبار منثورة في الكتب، وقد صدرت عنه عدة مؤلفات.

ج - الشعبي: واسمه عامر بن شراحيل الشعبي الحميري. عُد من تابعي الصحابة، وكان راوية يحفظ كثيرا من النصوص الشعرية والنثرية ويتذكر عددا كبيرا من الأخبار. وله نظرة نقدية فاحصة فيما يتمثل به من أشعار. ولد في سنة 640م، وتوفي في سنة 721م.

د - اسم الشاعر الأخطل هو: غياب بن غوت وهو من بني تغلب، مبدع في شعره، ولد في سنة 640م ومات في سنة 708م، وكان ملازما لخلفاء الدولة الأموية. وله ديوان مطبوع. وألفت في سيرته وفي شعره عدة كتب.

هـ - النابغة الذبياني، وهو زياد بن معاوية شاعر جاهلي كبير يفضله أوائل العلماء على غيره من الشعراء. وقد قال الشعر وهو كبير السن.

له ديوان مطبوع لدى دار المعارف في مصر بتحقيق الأستاذ محمد أبوالفضل إبراهيم اعتمادا على خمس نسخ مخطوطة منه وقد أجمل المحقق القول عن هذا الشاعر، فقال:

«كان النابغة في أطوار عمره بين قومه أو في قصور ذلك الزمان، وحكما بين الشعراء في سوق عكاظ. وكان رائع الشعر متصرفا فيه عُد - بحق - من أمراء الشعر وزعماء القول»، مات في سنة 604م.

و - الشاعر القطامي: هو عمير بن شييم بن بكر التغلبي. والقطامي ومعناها في اللغة الصقر لقبه الذي اشتهر به. شاعر يكثر من الغزل ولكن شعره بصفة عامة من أروع أنواع الشعر.

كان نصرانيا وأسلم وتوفي في سنة 747م تقريبا، وله ديوان مطبوع في أوروبا سنة 1902م بعناية أحد المستشرقين، ثم طبع في لبنان سنة 1960م.

ز - الشريف المرتضى: واحد من أحفاد الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما. وهو إمام في علم الكلام والتفسير واللغة والأدب. ولد في سنة 966م وتوفي في سنة 1044م.

وله في ذلك عدد كبير من المؤلفات أغلبها مطبوع. وكتابه: «غرر الفوائد، ودرر الخرائد» من أهم كتبه. وقد طبع محققا بعناية الأستاذ محمد أبي الفضل إبراهيم في بيروت سنة 2009م.

٭ ٭ ٭

الشعر النبطي الكويتي - كما هو معروف - يكتب بألفاظ اللهجة الكويتية، واعتاد بعض شعرائنا على إدخال بعض ما في العربية الفصحى من ألفاظ أو أساليب عليه، ولم يكن شعراء النبط عندنا - كلهم - من يسير على هذه الوتيرة في الجمع بين ألفاظ الفصحى وألفاظ اللهجة، ولكن ذلك دارج لدى بعضهم وهم يعرفون به: ومن المهم أن نشير إلى نموذج يدلنا على ذلك.

وهنا نختار قصيدة نبطية قالها الشاعر الكويتي عبدالله محمد الفرج أجاد - كعادته - في معانيها وفي صياغة ألفاظها، وقد اخترناه لهذا الحديث لأنه من الشعراء النبطيين الذين اعتادوا تضمين شعرهم بألفاظ من الفصحى، ولأنه ذكر النابغة الذبياني في بداية القصيدة التي اخترناها له فقال:

ما بال منهوم بالاحباب ما بات

إلا ابليل النابغي في مباته

ففي هذا البيت إشارة إلى ليل النابغة الطويل الذي جاء بذكره في بيت النابغة الشهير:

كليني لهم يا أميمة ناصب

وليل أقاسيه بطيء الكواكب

أما قصيدة شاعرنا عبدالله الفرج فتنطلق بقول شاعرها بعد مطلعها:

وامسهَّد يشكي التجافي وليعات

ما زال ما لوم الحشا في شكاته

لولا غرامه ما لقيت الحرارات

تلظى، وتنشف كل يوم شفاته

يا صاحبي لا تكترث بالمحاكات

لو عاد من بالحب تكتب وصاته

لابد ما تأتي من الله هبات

واتفرِّج الضيقات عنا هباته

وكان النابغة يقول لصاحبته أميمة التي أورد اسمها في بيته: دعيني لهمي المتعب، وليلي الذي أعاني فيه ما أعاني بسبب طوله حتى أشعرني بأن كواكبه بطيئة الحركة لا تغيب فيطول الليل بذلك.

أما أبيات عبدالله الفرج ففيها قوله: ما بال هذا المغرم بالأحباب (وهو يقصد نفسه) لم يذق طعم النوم في ليلته هذه التي أشبهت ليلة النابغة المذكورة في شعره.

لقد بقي شاعرنا - ساهرا - يشكو الجفاء، ويعاني لوعات الحب، وآلام القلب. ويضيف: إن ما يشعر به من حرارة تشتعل في جوفه ما هي إلا أثر من آثار الهوى المسيطر عليه وقد جف ريقه في حلقه بقوة اشتعالها.

وعلى الرغم من مشاعره هذه فإنه يدعو نفسه إلى عدم الاكتراث بما سوف يحدث له، فالحب ليس طريقا إلى الفناء، والله سبحانه وتعالى هو مفرج كل ضيق.

وإذا أردنا أن نتلمس آثار الفصحى في الأبيات التي أوردناها، فإننا سوف نجد فيها قوله: ما بال: بمعنى ما شأن. ومنهوم وهو من النهم المقصود به شدة الرغبة بالشيء، ولفظ مباته ولفظ مسهّد وهو من السهد ويقصد به السهر القسري.

أما لفظ ما لوم فهو يريد به: متألم، ولكنه جعل اللفظ على صيغة مألوم وألغى الهمزة.

وإذا انتقلنا إلى آخر جزء من قصيدته وجدناه سائرا على هذه الشاكلة، بين اليأس والأمل، والشكوى وطلب الصبر، وعلى كل حال فإن هذه القصيدة نموذج من النماذج الدالة على شعر عبدالله الفرج.

ففيها ألفاظ فصيحة كثيرة، تتخللها عدة تشبيهات وفق الأساليب المألوفة في اللغة الأم، كما فيها طلب الاتكال على الله وحده، وطلب عونه على اجتياز المعاناة التي يشكو منها، وهي التي بسببها طال ليله وهو ساهر يعاني من آلام الفراق، وانشغال الفكر بمن يهوى.

٭ ٭ ٭

هذا هو ما أردنا ذكره في مسامرتنا، وكل ما أتمناه أن تكون فيما تقدم الفائدة المطلوبة.

Advertisements
Advertisements