الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

قراءة تأصيلية لتفنيد دعاوى ورؤى محدثين حول زواج المسلمة من كتابي ودعاء الأذان وختم القرآن الكريم كاملاً في مصحف واحد.. بقلم: د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 10 مارس 2022 08:44 مساءً - مدعون ومفترون يرددون بأن الراغب في قراءة القرآن كله يجب أن يلتزم بمصحف واحد.. فليعودوا إلى عقولهم ولا يخوضوا في أمور تخالف صحيح الدين أو يُدخلوا إليه ما ليس فيه
  • باطل ومردود عليه قول معظمهم إن صلاة التراويح في المساجد لا تصح للمرأة.. فالثابت أنهن كنَّ يحضرن صلاتي التراويح والقيام في ليالي رمضان وفق ترتيب خاص يكفل عدم اختلاطهن بالرجال
  • يؤسفنا أن تطل الفتنة برأسها من أناس بعيدين عن شؤون الدين ويحاولون التشكيك والهدم
  • لا يحق للرجل الكتابي أن يتزوج المسلمة لأنه يُخشى عليها من أن يؤذيها أو يجبرها على اتباع دينه
  • الإسلام أجاز للمسلم الزواج بكتابية لأنه مضمون حُسن معاملته لها ووجودها في «الذمة» يحميها
  • نقول للمشككين اقرأوا كتاب الله وخذوا بما فيه ولا ينبغي لكم أن تتحدثوا بصفتكم مسلمين

لكل إنسان الحق في أن يعبر عن كل ما يجول بخاطره من أفكار وآراء، ولكن هذه الحرية ليست مطلقة بلا حدود، ذلك لأنها إن تعارضت مع الأعراف ومع صحيح الدين فإنها غير مقبولة. وفي الكويت نص الدستور على ضرورة احترام حرية الرأي في المادة رقم 35، ولكن ذلك لم يكن سببا يستند إليه من أراد أن يعلن أفكارا تعارض ثوابت المجتمع أو النظام السائد في الوطن، أو إذا كانت مخالفة لأوامر الدين ونواهيه. تنص هذه المادة على ما يلي: «حرية الرأي والبحث العلمي مكفولة، ولكل إنسان حق التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو غيرهما. وذلك وفقا للشروط والأوضاع التي يبينها القانون». إذن فإن الباب لم يفتح على مصراعيه أمام كل عابث في أمور الدين، فيدلي بما يخالف نصوصه بادعاء حرية الرأي، فالدين ليس من صنع البشر حتى يخوضوا فيه وفقا لأمزجتهم. يثير بعض الراغبين في نشر الفتن خلال هذه الأيام التي كثر فيها القيل والقال دون دليل أو برهان واضح، وكل يدلي بما في نفسه من عقد، ولا ينجو إلا من خاف الله في دينه، وأقلع عن اتباع الأوهام، والبحث عما يثير الملتزمين من المسلمين بدينهم الحريصين على اتباعه وهو الحق من ربهم.

طلع علينا مؤخرا من يدعي أن تحريم زواج المسلمة بالكتابي أمر لا دليل عليه من القرآن الكريم أو السنة النبوية الشريفة، وأنه كما يجوز للمسلم أن يتزوج كتابية، فإنه يجوز للكتابي أن يتزوج مسلمة، وهذا ما لم يقله أحد من قبل.

إن الفقه الإسلامي ينظم شؤون الحياة في جميع مناحيها، وهو بمثابة دستور كامل لو سارت الأمة على هداه لم تضل أبدأ، ولم تتأخر في سيرها. وقد قام بشأن هذا الفقه رجال أتقياء لهم علم غزير بمعاني القرآن والسنة، ولهم سماع متصل حول كل ما ورد في آثار سابقيهم، وهذا الاتصال أقربه إلينا العلماء، ثم من فوقهم التابعون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين استمعوا منه إلى كتاب الله عز وجل، وإلى أحاديثه التي أوضحت كل شيء، وهو صلى الله عليه وسلم يقول: «تركتكم على المحجة البيضاء ليلها كنهارها». إنه طريق الإسلام النير الذي هدانا الله إليه، وأعلمنا رسوله به. وهو القائل - أيضا: «تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وسنتي».

وقد تمسك المسلمون بذلك، واستطاعوا أن يبنوا مجتمعا صالحا، ودولة عظيمة، وجاء الفقهاء لكي يحولوا ما ورد في هذين الحديثين اللذين وردا عن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى برامج عمل، فوجدنا من كتبهم ما لم يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا وقد ذكرها. فصارت هذه الكتب موردا عذبا للراغبين في دراسة كل ما يتصل بأمور الدين، ولم يعقب أحد على أعمالهم من حيث النقص أو التجاوز، ولكن الاختلاف بسبب الاجتهاد قد يحدث، وإنما ذلك فيما لا يغير جوهر الدين ولا يتعارض مع أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نعم! ظهرت في الماضي - بعض الفرق الشاذة، التي أوقفها العلماء الأولون عند حدها. واستمرت أمور المسلمين سائرة في طريق الهدى، وعاد الناس إلى المحجة البيضاء التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وبعد قرون من ذلك الزمان يؤسفنا أن الفتنة قد بدأت تطل برأسها على المسلمين، ولكنها: لا تطل من رجال العلم ولا من طلابه بل من أناس تدل أقوالهم على بعدهم عن شؤون الدين، فهم في كل يوم يأتون إلينا بتساؤل يتضمن الإنكار ويقصد به هدم الدين الصحيح الذي كان مصدره الأساسي هو الوحي من رب العالمين إلى رسول الله ثم إلى البشرية أجمع. ومما أثير مؤخرا ما مرت الإشارة إليه هنا وهو القول بما يوحي جواز زواج المسلمة بالكتابي.

وتعليقاً على ذلك، فإننا نبدأ بالقول: أن إيماننا - نحن المسلمين - بالله ورسوله جميعا وكتبه إيمان لا يتزحزح، ويكفينا أن نقرأ قوله تعالى: (آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) (سورة البقرة الآية رقم 285).

ويكفينا - أيضا - ثناء رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرسل والأنبياء الذين أرسلهم الله عز وجل من قبله، وعلى سبيل المثال فإننا نورد قوله الكريم: «لا ينبغي لعبد أن يقول: أنا خير من يونس بن متى». أما ما نستدل به فهو ما استدل به الفقهاء من قبلنا، وهو قوله الله سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ) (سورة الممتحنة الآية رقم 10).

ومع الأسف أن ما ورد في هذه الآية الكريمة لم يكن - والعياذ بالله - مقنعا لهؤلاء الذين ذكرنا أنهم قد جبلوا على المخالفة، ولكنها في هذه المرة مخالفة قاتلة، فهي مخالفة لكتاب الله عز وجل.

هم يقولون إن هذه الآية تخص الكفار، ولا تشمل أهل الكتاب، ولكن لفظ الكفر بنص القرآن الكريم ينطبق على من سموا أهل الكتاب فالآية رقم 73 من سورة المائدة تنص على ما يلي: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).

وفي آيات الكتاب الكريم ما يدل على وقوفهم في وجه الدعوة الإسلامية منذ بدئها، ولذلك وجه إليهم القول في آيات بينات منها:

(وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70)) (آل عمران، الآية رقم 69 والآية رقم 70).

وكما رأينا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مبجلا للأنبياء والرسل، وإن كان المتأخرون من قومهم قد عزفوا عن الحق الذي جاء من أولئك الأنبياء والرسل، وزاغت عقولهم عن الدين القويم الذي دعوهم إليه، ولذا فهم كفار لأنهم خرجوا عن حدود الدعوة التي وجهت إليهم وتقبلها أوائلهم وساروا على نهجها، ولذلك فإن الإسلام اعتبرهم قد كفروا بما أُنزل إليهم. ولكن أمرهم اختلف عن بقية الكفار من عبدة الأصنام وغيرها، فاعتبروا في الذمة، لهم معاملة طبية، وينهى المسلمون عن إيذائهم، ويترك لهم مجال العيش الكريم، وفرصة أداء عبادتهم، بشرط ألا يكون ذلك معارضا للنظام الإسلامي المستقر. وقد أجاز الإسلام الحنيف أن يتزوج المسلم الكتابية لأنه مضمون من حيث حسن معاملته لها، فهي في الذمة وهذا وحده يحميها من أي حيف أو جور. ولكن الرجل الكتابي لا يحق له أن يتزوج المسلمة لأنه يخشى عليها من أي يؤذيها أو يجبرها على اتباع دينه. ولأن الله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) (سورة النساء الآية رقم 34). قال: الإمام الحافظ إسماعيل بن كثير في تفسير هذه الآية: يقول تعالى: (الرجال قوامون على النساء) أي أن الرجل قيِّم على المرأة فهو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها، ومؤدبها إذا اعوجت». فإذا كانت هذه سلطته وهو مسلم، فكيف يرضى المسلمون بأن يبسط الزوج الكتابي (إذا حدث ذلك) سيطرته على المسلمة.

إذن، فإن من الواضح أن الكتابين في أزمان أنبيائهم غير الكتابين من المتأخرين.

وتكفينا الآية رقم 12 من سورة البقرة للدلالة على كل ما تقدم من بيان هذا الأمر، وهي قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ).

فما على المشككين إلا قراءة القرآن الكريم والأخذ بما فيه، أما إن كانوا غير قابلين لذلك فلا ينبغي أن يتحدثوا بصفتهم مسلمين.

ليس فيما ذكرته أي تلميح، أو دلالة على موقف مضاد لأهل الكتاب، ولكنني أدافع عن أمر فقهي معروف له أصول أشرت إليها هنا.

ولقد كان لهؤلاء عهد ومسالمة منذ زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان يوصي بهم خيرا ما داموا على عهدهم ومسالمتهم. بل لقد كان المسلمون مسؤولون عن الدفاع عنهم الله عنه في دون إلزامهم بحمل السلاح. ولقد كانت وصية سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه في آخر عهده بالدنيا، قوله: «أوصى الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم خيرا بأن يوفى لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، وأن لا يكلفوا فوق طاقتهم». وكان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يقول: «من ظلم معاهدا أو كلفه فوق طاقته فأنا حجيجه إلى يوم القيامة». وروي أن رجلا من المسلمين قتل رجلا من أهل الكتاب فرفع أمره إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «أنا أحق من وفَّى بذمته» ثم أمر بقتل القاتل. فالإسلام دين الرحمة، ودين الالتزام بالعهود والابتعاد عن المظالم. ولقد عاش أهل الكتاب في اطمئنان تحت ظل الحكم الإسلامي إلا من شذ منهم فخرج عن العهد الذي عاهد عليه. ولا شك في أن تحريم زواج الكتابي بالمسلمة، متصل بهذا الذي أوردته الآن، وفي هذا التحريم حماية للزوجة، وحماية للزوج فقد يخرجه تصرفه الخاطئ معها إلى خروجه من العهد الذي عاهد عليه ودخل بسببه في ذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

***ومن غرائب ما سمعته أن بعض الناس يقولون إن الدعاء الذي اعتدنا قوله بعد انتهاء المؤذن من أداء الأذان، وهو قولنا: «اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آت محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاما محمودا الذي وعدته» على أن تكون هذه العبارات مسبوقة بالصلاة على النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. يقول هؤلاء المشار إليهم إن هذا الدعاء لا داعي له، ولا ينبغي من المستمع إلى الأذان أن يقوله. وهذا نوع من التعدي على حدود الدين الحنيف، ومخالفة لما أمر به رسول الله، ووردنا عن أصحابه.

ولإيضاح ذلك، فإن من الأفضل أن نقدم هنا ما ورد في كتاب منار السبيل في شرح كتاب دليل الطالب الذي ألف أصله الشيخ مرعي بن يوسف المقدسي، ومنذ البداية كان حديثه عن متابعة المؤذن في كل جملة يقولها. فجاءت إشارته إلى ما يلي:

وسُنّ لمن سمع المؤذن أو المقيم (الذي يقيم الصلاة) أن يقول مثله، إلا في الحوقلة وهي قوله: لا حول ولا قوة إلا بالله عند قول المؤذن حي على الصلاة، حي على الفلاح.

وذكر الكتاب أن حديثا مرفوعا رواه سيدنا عمر بن الخطاب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فحواه: «إذا قال المؤذن: الله أكبر، الله أكبر، فقال: أحدكم الله أكبر الله أكبر، ثم قال: أشهد أن لا إله إلا الله، فقال: أشهد أن لا إله إلا الله، ثم قال: أشهد أن محمدا رسول الله، فقال: أشهد أن محمدا رسول الله، ثم قال: حي على الصلاة، فقال: لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم قال: حي على الفلاح، من لا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال الله أكبر، الله أكبر، فقال الله أكبر الله أكبر، ثم قال: لا إله إلا الله. فقال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه، دخل الجنة».

هذا هو ما يتعلق بالأذان، أما ما يتصل بالإقامة فكما يلي وفق المصدر المشار إليه «رُوي عن بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أن بلالا أخذ في الإقامة، فلما أن قال: قد قامت الصلاة. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أقامها الله وأدامها» وكان يقول في سائر الألفاظ الإقامة مثل ما كان في حديث سيدنا عمر الأنف ذكره.

فإذا انتهى الأذان فإن المستمع يقول التزاما بما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفق ما ورد من حديث عبدالله بن عمرو مرفوعا: «إذا سمعتم الأذان، فقولوا مثل ما يقول، تم صلوا عليّ صلاة صلى الله عليه عشرا، ثم سلوا الله لي الوسيلة، فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلا لعبد من عباد الله، وأرجو أن أكون هو، فمن سأل الله لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة». وروى البخاري حديثا عن جابر بن عبدالله: نصه: «من قال حين يسمع النداء (الأذان): اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة آت سيدنا محمدا الوسيلة والفضيلة، وابعثه اللهم مقاما محمودا الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة». أفبعد هذا يشكك المشككون في استحباب أداء هذا الدعاء وفيه حديثان مرويان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. ألا يدري هؤلاء مغبة ما يقولون، وما يشيعونه من أمور قد تبدأ بمثل هذا ولكنها ربما لا تنتهي إلا بما هو أكبر؟

***هذان أمران مما يردده بعض الذين أبوا على أنفسهم إلا الخوض فيما لا يعرفون، أو أنهم رأوا في أنفسهم المقدرة على الخوض في المسائل الشرعية التي لم يفهموها على وجهها الصحيح، فتصدروا للإفتاء بإعلان آراء مخالفة. وما يمكننا ذكره من أقوال هؤلاء لا يحصى، لأنهم يجددون أقوالهم، ويأتون في كل يوم بآراء مردودة، لم تأت عن الشرع الشريف ولم تصدر عن عقل حصيف.

ومن هذا النوع ما يأتي هنا، فقد تجرأ بعضهم فخطوا خطوة واسعة في طريق الضلال. وهذه الخطوة تتعلق بكتاب الله عز وجل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلقه، ولا يجوز لمسلم آمن بالله عز وجل وصدق بنيه صلى الله عليه وسلم أن يتحدث عن هذا الكتاب الكريم بحديث لم يرد في القرآن الكريم أو في الأحاديث النبوية الشريفة.

يقولون: إن المرء إذا أراد أن يقرأ القرآن كاملا، فإنه ينبغي أن يقرأه كله في مصحف واحد وإذا قرأه في عدة أيام فإن من واجبه أن يلتزم بقراءته من المصحف الذي بدأ به القراءة، ويقولون إنه لا يجوز للقارئ الذي اعتزم قراءة القرآن من أوله إلى ختامه إذا قرأه في أكثر من مصحف.

وهذا الذي يقولونه باطل من عدة وجوه. وهو افتراء على الله وعلى رسوله الكريم، ولم يرد ذلك ممن تتبعنا أقوالهم بدءاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أسعفهم الحظ فاستمعوا منه إلى القرآن الكريم، وكان كل منهم يقرأ ما يحفظ منه. ولم يكن المصحف موجودا خلال الأيام التي كان فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيا يتلقى الوحي من ربه عز وجل، بل كان في صدور الرجال، وكان بعضه متفرقا بأيدي بعضهم مكتوبا على ما تيسر لهم الكتابة عليه وقتذاك. فمن أين تبدأ هذه الفتوى الشاذة؟

نحن نعرف أن الذي جمع المسلمين على مصحف واحد هو الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه، وهو ثالث الخلفاء الراشدين، وذلك حين خشي على القرآن الكريم بسبب وفاة عدد كبير من حفاظه، وتناثر ما كتب منه على الطريقة التي ذكرناها. وقد هداه الله عز وجل إلى جمع كل ما نزل على الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم من آيات الذكر الحكيم في مصحف جمع الناس عليه. وبهذا جاء الدليل على معنى قوله تعالى: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون»، فكان اهتداء سيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه لهذا العمل من أهم الأعمال.

ومعروف أنه أرسل نسخا من المصحف الذي تابع جمعه ونسخه إلى كافة الأمصار التي عمها الإسلام بنوره. لقد مضى عصر النبوة، وعصر الخليفة الأول والثاني ومرّ جزء من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى وجدنا المصحف جامعا لآيات القرآن الكريم، وقد وفق الله الخليفة الثالث ومن معه من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء كاملا كما أوحى به الله سبحانه إلى نبيه.

إذن، فإن المصحف الذي نقرأ به اليوم إنما هو نسخة مطبوعة، ومكتوبة بخط واضح عما صار يسمى: مصحف عثمان، ولم يكن قبله مصحف على الصورة التي نراها في أيامنا هذه. فهل نزل على هؤلاء المدعين وحيّ أوحى لهم بما قالوه. وهو أن المسلم لا يجوز أن يختم قراءة القرآن كله إلا من مصحف واحد ولا يجوز له أن يقرأ في أكثر من مصحف إذا كان ناويا قراءة القرآن الكريم كله. كل ما أرجوه أن يعود هؤلاء إلى عقولهم، وإن لا يخضعوا في أمور تخالف صحيح الدين، أو تدخل إليه ما ليس منه.

***

عندما استمع إلى أقوال بعض مدعى العلم بأمور الدين أكثر من غيرهم، أتساءل: ألم نكن نعيش في مجتمع في مسلم؟ ألم يكن في بلادنا عدد من العلماء الثقات الذين لا يرضون للدين بأي مخالفة؟ ثم أتساءل عن هؤلاء المحدَثين: أهم أكثر علما وورعا من أولئك الرجال الذين يشهد لهم ماضيهم بما يتمتعون به من تمسك بالدين وعلم به، ودراية كاملة بكل ما يتعلق بشؤون الحياة مما لا يخرج عن الطريق القويم الذي سارت عليه الأمة من عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم.

لقد كان مما يتاح للنساء صلاة التراويح في وصلاة القيام في الليالي العشر الأواخر منه، وقد مر وقت طويل على أداء النساء لهذه السنة الكريمة في المساجد وفق ترتيب خاص يكفل عدم اختلاطهن بالرجال. وبعد هذا يأتي من يقول إن صلاة التراويح في المساجد لا تصح للمرأة. وهذا من الباطل الذي يأتون إلينا به بين حين وآخر. ومن المعروف أن النساء كن يصلين في المسجد صلاة الجماعة على زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو القائل: «إذا استأذنت امرأة أحدكم إلى المسجد فلا يمنعها». ومما روي في هذا الشأن - أيضا - أن امرأة لعمر بن الخطاب تشهد صلاة الصبح والعشاء في الجماعة في المسجد، فقيل لها: لم تخرجين وقد تعلمين أن عمر يكره ذلك ويغار؟ قالت: وما يمنعه أن ينهاني. قال ابن عمر: يمنعه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا إماء الله مساجد الله». وفي كتب الفقه الإسلامي ما يؤكد ذلك استنادا إلى دلائل ذكرت. ففي كتاب المقنع لابن قدامة ج1 ص 186: إشارة إلى صلاة التراويح ببيان وقتها وعدد ركعاتها وأنها تكون في جماعة وفي حاشية الكتاب ما يدل على أن النساء كن يحضرن إلى المسجد لأداء هذه الصلاة التطوعية. ومما يدل على ذلك أن علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه كان قد فرض للرجال إماما وللنساء إماما. ويبدو أن ذلك حدث بعد ازدياد عدد المصلين من الجنسين. وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رُوي عنه قد جمع أهله وأصحابه وقال: «إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف كتب له قيام ليلة».

أليس في هذا ما يرد على ادعاء أولئك المدعين؟

***

وإلحاقاً بما مضى، فإن مما لفت نظري وأنا أتابع هذه الأقوال التي تجاسر أصحابها على الشرع الشريف، وأبدوا فيها آراء مخالفة لنصوصه أني وجدت تحذيرا شديدا من رسول الله صلى الله عليه وسلم يمنع الناس من سلوك هذا السبيل الذي سار عليه أمثال أولئك الذين عرضت بعض ما قالوه.

وأضيف إلى ذلك ما هو من المهم أن يضاف وهو الحديث الذي لابد وأن يطلع عليه جميع المخالفين لعلهم يعودوا إلى الصواب.

لقد أورد محمد بن مكرم بن منظور في كتابه المشهور: «لسان العرب» هذا الحديث الذي أشرت إليه، فقال: «وفي حديث في الفتن رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر من أشراط الساعة أن تنطق الرويبضة في أمر العامة، قيل وما الرويبضة يا رسول الله؟ قال: الرجل التافه الحقير ينطق في أمر العامة». ثم يضيف الكتاب إلى ذلك قوله إن: «الرويبضة تصغير رابضة» وفسره عدة تفسيرات منها أنه العاجز الذي ربض عن معالي الأمور، وقعد عن طلبها. ثم أعقب ذلك بقوله: والغالب أنه قيل للتافه من الناس رابضة ورويبضة» وهذا القول الأخير هو ما نراه في الحديث المتقدم.

هذا هو شأن التافه الذي يتحدث في الشؤون العامة، وفي شؤون الدين بخاصة فيما لا يعرف، ولا تصل مكانته في المعرفة إلى إطلاق لسانه فيه. أليس هذا كافيا لإيقاف هذا السيل من الأقوال التي يدلي بها أمثال هذا الرويبضة الذي حذرنا منه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنذرنا بأن وجوده شرط من أشراط الساعة وإشارة إلى قرب حدوثها؟

***

وأخيراً ونحن نستمع إلى تلك الأقوال وأمثالها، ونعجب لجرأة البعض على إبداء آراء لا دليل عليها فإننا نتساءل: أنحن الآن في آخر الزمان، الذي نبهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بعض ما يحدث فيه؟ ذلك لأن من أحاديثه الشريفة قوله الكريم: «يأتي على الناس زمان يؤتمن فيه الخائن، ويخوَّن فيه الأمين، ويتكلم فيه الرويبضة»، وهذا هو الحديث الذي ذكره ابن منظور ونقلناه عنه.

قيل يا رسول الله، وما الرويبضة؟ قال: «سفيه القوم، يتكلم في أمر العامة»، وسفيه القوم الذي يتكلم بما يهم عامة الناس وهو وأمثاله من يوحون اليوم لغيرهم أو لمن يصدقهم بمعلومات دينية مخالفة، ولا دليل عليها. وختاماً، فإن الله سبحانه وتعالى قد حذّرنا في كتابه الكريم من مثل ما جرى عرضه هنا من ادعاء الحرام والحلال دون دليل من القرآن الكريم والحديث الشريف فقال في الآية رقم 116 من سورة النحل: (وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ).

ومن يتأمل هذه الآية الكريمة، ثم يفتري على الله كذبا فإنه سوف يعرف بنصها أنه لن يفلح، وسوف ينال جزاءه، والله يهدي إلى سواء السبيل.

Advertisements
Advertisements