الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

الرحلات قديماً وحديثاً.. إعمار واستكشاف وتجارة وطلب علم وسياحة.. بقلم : د.يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 11 أغسطس 2022 07:56 مساءً - الكويتيون منذ زمن طويل أهل رحلات للغوص والتجارة وخدمات النقل
  • الشيخ عبدالله الدحيان كانت رحلته إلى الحج بواسطة الجمال ونظم قصيدة صارت من أهم ما كتب عن هذه الفريضة العظيمة شعراً وصفاً وتعليماً
  • صالح العثمان جازف بالوصول إلى مرسيليا وميلانو في عشرينيات القرن الماضي ففتح أسوار فرنسا للتجار الكويتيين وعادوا ليكونوا محط أنظار أبناء وطنهم
  • رحلة دائرة المعارف «الطلابية» في عام 1953 إلى مصر شملت القاهرة ونيلها والأقصر والكرنك ووادي الملوك ووثّقها الشاعر أحمد السقاف في قصيدة جميلة


بقلم : د.يعقوب يوسف الغنيم

الرحلات عادة بشرية لم يتوقف عنها الإنسان منذ نشأ، وهو مضطر لذلك طلبا للرزق، وبعدا عن الأخطار، وبحثا عن الأمن.

وهو غير مضطر للبقاء في مقر سكنه إذا أصاب هذا المحل قحط، أو تعرض إلى ما يخاف منه، فأرض الله واسعة، وهذه الرحلات هي التي كانت السبب في عمران المدن، لأن كل موقع يحل فيه البشر فإنهم يحولونه بجهودهم إلى مقر سكني عامر لهم، لأن الناس يسعون دائما إلى الإقامة في المكان الذي يوفر لهم الرزق والأمان.

وللرحلات أنواع، ظهرت أشكالها مع تطور الزمان، فبالإضافة إلى الرحلات الأولى التي تمت بسببها عمارة أجزاء كبيرة من الأرض، اعتاد الناس على القيام برحلات مؤقتة كالرحلات التي تتم لأغراض محددة، ثم يعود أصحابها إلى حيث يقيمون، وهي الرحلات التي يسافر المسافرون خلالها للتجارة أو للوفود على الملوك والأمراء وكبار القوم، أو لاستكشاف البلدان كما فعل عدد من الرحالة العرب الذين سوف نذكرهم هنا، تضاف إلى ذلك الرحلات التي يقوم بها طلاب العلم، وهي رحلات ينهض إليها هؤلاء الطلاب إلى العلماء المعروفين في بعض البلدان ممن يفد إليهم الطلاب من كل مكان من أجل الاستفادة بعلمهم ناهيك عن المراكز العلمية المعروفة مثل الأزهر وجامعة القرويين.

ولقد عرف العرب منذ العصر الجاهلي، خاصة منهم أهل مكة من قبيلة قريش، برحلتين سنويتين للتجارة، هما: رحلة الشتاء، ورحلة الصيف، اللتان ذكرهما القرآن الكريم في سورة نصها: (لإيلاف قريش، إيلافهم رحلة الشتاء والصيف، فليعبدوا رب هذا البيت، الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف)، فهم يقومون في الصيف برحلة تضم عددا من الناس على إبلهم إلى الشام، ويأخذون معهم ما يصلح للبيع هناك، ثم يعودون محملين بما يشترونه من تلك البلاد.

وقد عرف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قد ذهب في إحدى هذه الرحلات وهو صغير مع عمه، ثم ذهب بعد ذلك - وهو شاب - متاجرا، وعاد غانما.

وأما رحلة الشتاء فهي إلى اليمن، وكان الغرض منها مشابها لما كان في الرحلة الأولى، فهي من أجل التجارة، وتبادل البيع والشراء مع أهل اليمن.

وقد عادت هاتان الرحلتان اللتان استمرتا مدة طويلة بفوائد جمة على أهل مكة، وعلى قريش بالذات، ولذا فإن الله سبحانه وتعالى ذكرها في كتابه الكريم لبيان فضله عليهم.

وهناك رحلات كثيرة مماثلة بين أجزاء جزيرة العرب، منها رحلات إلى المدينة المنورة (يثرب آنذاك)، والبحرين الكبرى في الجزء الشرقي الشمالي من جزيرة العرب، وكانت لهذه الرحلات فوائد تعود على كل أهل الجزيرة العربية، من حيث سد حاجات الناس، ومن حيث الارتباط بين كافة القبائل العربية، حتى إذا جاء الإسلام صار بذلك التفاف الجميع حول نبيهم صلى الله عليه وسلم سهلا، لأن صلاتهم كانت قائمة، أصلا، وعندما بدأت الفتوح الإسلامية انتشر المسلمون في أنحاء الأرض، ووصلوا إلى أماكن بعيدة بصورة تدريجية حتى وصلت طلائعهم إلى الصين، وروسيا والهند، دعك من البلدان المتاخمة لجزيرتهم.

وتوجوا ذلك كله بفتح الأندلس وإقامة الدولة الإسلامية بها بعد ذلك، حيث استمر الحكم العربي المسلم بها ثمانية قرون.

ومن أجمل ما كتب عن الرحلات كتاب صدر بهذا الاسم للدكتور شوقي ضيف، وهو مختصر جدا، ولكنه عظيم الفائدة، ولقد تضمن كل ما يرغب به القارئ من معلومات عن هذا الأمر.

في فصل من فصول كتابه تحدث الدكتور الفاضل عن نموذجين من نماذج الرحلات الاستكشافية التي تمت بأمر صادر عن واحد من حكام الزمان الذي حدثت فيه، وهو يؤكد ذلك بقوله: ولم يدون العرب أخبار الرحالة الأوائل، ولكنا لا نصل إلى القرن التاسع الميلادي (الثالث الهجري) ونقرأ كتبهم الجغرافية والتاريخية حتى نجدهم قد عرفوا معرفة دقيقة أخبار الأمم من حولهم، ما يدل على كثرة الراحلين والسائحين.

ومن أقدم من يذكرونهم في هذا الباب سلام الترجمان الذي يقال إن الخليفة الواثق (842-847م) أرسله في بعثة إلى بلاد الصين ليشاهد السد الذي بناه الاسكندر في ديار يأجوج ومأجوج.

وعادت البعثة تقص على الناس أخبار الصين وعجائبها. ومن هؤلاء الرحالة ابن وهب القرشي الذي يقال إنه استطاع لقاء ملك الصين وعرض عليه الملك صورا للأنبياء، ومن بينها صورة للرسول صلى الله عليه وسلم.

ويقال إن هذه الرحلة كانت في سنة 870 م. وهذان الرحّالتان إنما هما رمز لكثيرين وراءهما طوفوا في آسيا وأفريقيا، يتاجرون في العروض التجارية وفي الرقيق.

وإذا كان العرب قد نشروا الإسلام عن طريق السيف في إيران والهند وشمالي أفريقيا فإن التجار من ورائهم نشروه في أقاليم لم يصل إليها الفاتحون في آسيا كالصين وفي إفريقية كالسودان وعلى طول شاطئها الشرقي.

وكثيرا ما كانت هذه الأقاليم الجديدة تطلب بعثات دينية من بغداد، تعلم الناس فروض الإسلام وما شرعه الله لمصلحتهم في دنياهم وآخرتهم.

ويختم ذلك بقوله: وهذه الرحلة أيضا إنما هي رمز لرحلات العرب في أوروبا، ونحن لا نقرأ ما كتبه المسعودي في مروج الذهب، وقد عاش في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) حتى نؤمن بأن العرب قد توغلوا في كل الأقاليم من حولهم فعرفوا جغرافيتها وتاريخها وأحوال سكانها معرفة دقيقة.

ومن هذه المعرفة ملأ المسعودي كتابه المذكور وكتبه الأخرى الكثيرة بأخبار الأمم الأجنبية والإسلامية، وكان هو الآخر رحالة، جاب المحيط الهندي وشواطئه في إفريقيا وجزائره الكثيرة: وزار الهند وبلاد الصين وبحر قزوين وآسيا الصغرى والشام ومصر وبلاد العرب. وتختلط في كتاباته مشاهداته بتلك البلدان بمشاهدات غيره من الرحالة والسائحين.

وعلى كل، فإن هذا الكتاب يذكر لنا أعدادا كبيرة من الرحالة في أزمان قديمة مختلفة بأسلوب جميل مفصل وموجز.

ثم لا ينسى أن يقدم - في آخر الكتاب - شيئا وافيا عن رحلتين قام بهما رجلان غير متعاصرين أولهما هو محمد بن أحمد بن جبير الأندلسي المولود في سنة 1145م، وقد بدأت رحلته في اليوم الثالث من شهر فبراير لسنة 1183م قاصدا مصر، ومنها توجه إلى حج بيت الله الحرام، وقد فصل د.شوقي ضيف كثيرا من أخبار هذه الرحلة التي كشفت معلومات مهمة عن البلدان التي تمت زيارتها آنذاك.

وثاني الرجلين هو الرحالة الشهير محمد بن محمد الطنجي الشهير بابن بطوطة، وهو من مواليد مدينة طنجة المغربية في سنة 1304م، وكانت ولادته في أسرة معنية بالعلوم الشرعية، وكانت تتمتع بعيش رخي.

ولقد اهتم أبوه بتعليمه حتى تضلع في العلوم الشرعية، وصار قادرا على العمل في القضاء مثل بقية أهله، ولكن نفسه دعته إلى حج بيت الله الحرام، فعزم على ذلك، وخرج من بلاده عندما كان في السنة الثانية والعشرين من عمره في سنة 1324م.

بدأت رحلته بمصر، وكانت محطته الأولى في الإسكندرية التي طاف بكل جوانبها، وشاهد كل مشاهدها، ومن هناك واصل طريقه إلى عدة بلدان.

وتكررت رحلاته بعد ذلك، وكتب كل ما مرّ به واطلع عليه، في كتاب كبير الحجم مطبوع حاليا، ومن قراءته يتبين لنا أنه لم يترك بلدا سمع به إلا وقد زاره، إذ نراه زائرا إضافة إلى البلدان الإسلامية الهند والصين وغيرهما.

والحق يقال إن ابن بطوطة يستحق شهرته هذه، فقد كانت رحلاته المشار إليها ذات شأن في رصد المعلومات المهمة جغرافيا وتاريخيا واجتماعيا، ما جعل كل قارئ يلم بسهولة بكل ما يريد الإلمام به، بل ويكتشف أمورا في حياة الشعوب لم يعرفها من قبل.> > >

وللشعراء دورهم في تسجيل ما يحدث لهم من رحلات، وذلك لأن كثيرين منهم يرحلون - دائما - في سبيل الوفادة على كبار القوم طلبا للاستفادة المادية منهم.

ومن هؤلاء الذين رحلوا، وتركوا لنا سجلا شعريا لرحلة من رحلاتهم الشاعر أبو نواس، فقد صور رحلة قام بها في قصيدة جميلة أثنى عليها صحبه من الشعراء.

فقد عزم - في سنة ما - على السفر إلى مصر طلبا لمنحة ربما حصل عليها من واليها (الخصيب) الذي ولاه الخليفة العباسي هارون الرشيد عليها. وذهب الشاعر بالفعل مع مجموعة من أصحابه الشعراء.

وعندما دخلوا على الوالي في مجلسه، انطلق أبو نواس في إلقاء القصيدة التي أعدها لهذه المناسبة، وهي التي بدأها بوصف رحلته إلى أن وصل إلى ديار الممدوح، ثم مدحه، فقال:

تقول التي عن بيتها خف مركبي

عزيز علينا أن نراك تسير

أما دون مصر للغنى متطلب

بلى، إن أسباب الغنى لكثير

فقلت لها واستعجلتها بوادر

جرت فجرى في جريهن عبير

ذريني أكثر حاسديك برحلة

إلى بلد فيه الخصيب أمير

ومن مديحه:

إذا لم تزر أرض الخصيب ركابنا

فأي فتى بعد الخصيب تزور

فتى يشتري حسن الثناء بماله

ويعلم أن الدائرات تدور

فما جازه جود ولا حل دونه

ولكن يصير الجود حيث يصير

وكانت هذه القصيدة في أربعين بيتا، نالت إعجاب الخصيب، كما نالت إعجاب الحاضرين في تلك الجلسة. ودلت على أثر الرحلة في الشعر، فإنها هي التي أوحت إلى أبي نواس بهذا الوصف الذي ذكره فيها منذ أن أبدى رغبته في السفر إلى أن وصل إلى مبتغاه.

(استمر الرشيد في الخلافة منذ سنة 786م، إلى سنة 809م، أما أبو نواس فقد ولد في سنة 763م، وتوفي في سنة 814م.

***
وعندما ضاقت سبل العيش بمحمد بن زريق غادر بلاده إلى الأندلس، عسى أن يجد ما يرفع عنه الضيق، فودع زوجته وداعا حارا، واتجه إلى مقصده، وهناك وفد على الخليفة القائم بالحكم في ذلك الوقت.

ولكنه لم ينل منه إلا شيئا قليلا من المال، فاعتبر الشاعر أن هذا بداية فشل رحلته، فقد كان يؤمل بأكثر من ذلك، وقد أحس باليأس، وعاد حزينا إلى المكان الذي اختاره لمبيته هناك، وزاد به الأسى حتى فاضت روحه، ولم يدر بذلك أحد.

وتذكر الخليفة هذا الزائر بعد عدة أيام، فأرسل من يبحث عنه حيث وجده الباحثون في أحد الخانات (وهي جمع خان: سكن للمسافرين كالفندق).

وكان ميتا وتحت وسادته ورقة فيها قصيدة تحكي حاله. ولقد أسف الحاكم جدا لما حدث له، وقال: هل ظن المسكين أننا سوف نتركه؟ ومن الصدف أن ابن زريق قد وضع اسم زوجته ومكان سكنها في بلاده مع القصيدة فأرسل الحاكم إليها - حالا - ما قرره لزوجها من مال.

القصيدة طويلة يحس قارئها أن هذا الشاعر كان يعبر عن إحساس عميق بالأسف على تعجله بالمجيء إلى هذا المكان البعيد.

وكان يذكر في بدايتها أن زوجته كانت تعذله على سفره، وأنه يطلب منها الرفق به، وعدم الشدة عليه في اللوم، فهو مضنى القلب موجعه.

وأنه ظن - حين عزم على الرحيل - أن سوف يجد الغني، ولكن:

تأبى المطامع إلا أن تجشمه

للرزق كدّا، وكم ممن يودعه

وما مجاهدة الإنسان توصله

رزقا، ولادَعَة الإنسان تقطعه

ويستمر في هذا الإيضاح إلى أن يبدأ في تذكّر يوم الفراق، فيقول:

استودع الله في بغداد لي قمرا

بالكرخ من فلك الأزرار مطلعه

ودعته وبودي لو يودعني

صفو الحياة وأني لا أودعه

وكم تشفع بي أن لا أفارقه

وللضرورات حال لا تشفّعه

وكم تشبث بي يوم الرحيل ضحى

وأدمعي مستهلات وأدمعه

وفي قوله: «من فلك الأزرار مطلعه» معنى سبقه إليه أبونواس حين قال:

يزيدك وجهها حسنا

إذا ما زدته نظرا

كأن قميصه أطلعـ

ـن، من إزراره قمر

ولقد كان ابن رزيق وهو يكتب قصيدته في وضع بائس، ولكنه كان لا يزال متمسكا بأمل العودة إلى حيث بيته الذي تنتظره فيه زوجته، وكان يظن أن صبره سوف يعود عليه بالنفع، وأن الأيام سوف تجمعه بزوجته مرة أخرى:

عل الليالي التي أضنت بفرقتنا

جسمي ستجمعني يوما وتجمعه

وإن تنل أحدا منا منيته

فما الذي بقضاء الله يصنعه

***

ويأخذنا الحديث من هنا إلى الكويت، وكان أهلها - منذ زمن طويل - أهل رحلات، وجدوا في ذلك سبيلا من سبل المعيشة فاعتمدوا على رحلة الغوص على اللؤلؤ، ورحلة السفر الشراعي إلى بلدان بعيدة من أجل التجارة وخدمات النقل.

وهذا نموذج من ذلك ورد في كتابنا: «ملامح من تاريخ الكويت» ونصه: في سنة 1923م سافر أحد أبناء الكويت في رحلة أقرب ما تكون إلى المغامرة، وتنقل بين مرسيليا في فرنسا وميلانو في إيطاليا، ولا يستغرب على هذا الرجل أن يجازف بالوصول إلى هذه البلاد النائية بالنسبة إلى الكويت في ذلك الوقت فهو معروف بشدة البأس والقدرة على مجابهة الأحداث، إنه المرحوم صالح العثمان الراشد الحميدي، ولم يكن سفره إلى أوروبا هو أول أسفاره للعمل في خارج الكويت، فقد كانت له أعمال تجارية في مصر، وله محل تجاري في «خان الخليلي» السوق المشهور بالقاهرة، وقد كان والده من تجار الكويت المعدودين، وكانت له قوافل من الجمال تسير بالتجارة من الكويت إلى مصر والشام.

ومما قام به صالح العثمان عند سفره إلى مرسيليا استكشاف الأسواق الخاصة بتجارة اللؤلؤ وتعرف مجالات العمل في هذه التجارة التي توشك أن ينتهي سوقها في الهند، كما كانت عليه الحال سابقا، فكتب رسائل إلى تجار الكويت يبلغهم إمكان العمل مباشرة مع فرنسا في هذا المجال بدلا من اتخاذ الهند واسطة، فكان أن قام عدد من الرجال الكويتيين بسفرات متعددة إلى فرنسا رغبة في فتح سوق لتجارتهم هناك، وكان أول المبادرين بالسفر إلى باريس على بن حسين بن على آل سيف ومعه عيسى الصالح، وذلك في سنة 1930م، وفي سنة 1932م سافر إلى باريس محمد بن شملان بن علي آل سيف، ومعه مساعد الصالح، وفي الرسائل التي أرسلها هؤلاء المغامرون وصف لكثير من الأمور التي شاهدوا، وبيان لأحوال باريس، وأسلوب البيع والشراء بها، كما أن بعض رسائلهم تتحدث عن سير رحلتهم من الكويت أو من بومبي (في الهند) إلى ذلك المكان البعيد.

وعندما عاد هؤلاء كانوا محط الأنظار بين أبناء وطنهم، فقد سافروا إلى مكان بعيد، وشاهدوا مشاهدات كثيرة غريبة عليهم، إذ كان مما لفت أنظارهم هناك كثرة السيارات والقطارات والطائرات ودور السينما والمباني العالية والأسواق الكبيرة والشوارع الواسعة، وسفور المرأة، وكانت أحاديثهم حول هذه الأمور وغيرها مثيرة لانتباه مستمعيهم لما فيها من غرابة على أسماعهم في ذلك الوقت.

***

وهذه رحلة من نوع آخر، هي رحلة إلى بيت الله الحرام، يصفها رجل له مكانة في الوطن، وسمعته عالية بين رجال عصره، إنه الشيخ عبدالله خلف الدحيان، وهو من رجال العلم الديني المعروفين في الكويت، وفي المنطقة المحيطة بها، وكان يقدم دروسا يحضرها عدد كبير من طلاب العلم، بعضهم يأتيه من الخارج لهذا الغرض فقد كانت سمعته بصفته عالما غزير العلم تصلهم إلى بلادهم.

ولد في الكويت سنة 1875م، ودرس فيها على أيدي بعض العلماء، ثم رحل من أجل الدراسة عند أمثالهم في الخارج، وعاد إلى الوطن حاملا مشعل العلم، مؤديا واجبه نحو دينيه وأمته، وتوفي في سنة 1349هـ (1930م).

كانت له رحلة إلى الحج في سنة 1324هـ (1906م) وكانت - في ذلك الوقت - رحلة شاقة تتم بواسطة الجمال، وتستغرق زمنا طويلا. وقد وصف الشيخ هذه الرحلة بكاملها، وتحدث عن رفاقه فيها، وأثنى عليهم، وعلى حسن رفقتهم.

فجاء وصفه هذا في قصيدة طويلة طبعت في طبعة منفردة، وصارت تاريخا للحج في وقتها لما تضمنته من تفضيلات. وقد بدأها بقوله:لنيل العلا والمجد سير الرواحل

يحثحثها بالجد كل حُلاحُل

ويسعى يطوف البيد لا متوانيا

ويرمى حصى التسويف رمي التكاسل

إلى أن أكمل هذه القصيدة التي صارت من أهم ما كتب عن الحج شعرا من حيث وصف الطريق ووصف أعمال الحج كلها.

***

ومن أجمل الرحلات تلك التي كانت تقوم بها دائرة معارف الكويت لطلابها، فتختار منهم من المنخرطين في المرحلة الثانوية عددا، تجعل معهم بعض الأساتذة بصفتهم مشرفين عليهم، وتختلف الأماكن المقصودة من سنة إلى أخرى.

ومن هذه الرحلات كانت الرحلة التي تقرر أن تكون إلى مصر، وكان ضمن الهيئة المشرفة عليها الأستاذ الشاعر أحمد السقاف.

وذلك في سنة 1953م. وقد وضع لهذا الوفد برنامج واسع تمت خلاله زيارة كثير من الأماكن التعليمية والأثرية في ذلك البلد العربي، وقد أقيمت للوفد الزائر بهذه المناسبة عدة حفلات تكريمية، ومنها حفل ألقى فيه الأستاذ أحمد السقاف قصيدة جميلة عبر فيها عن اعتزاز أهل الكويت بمصر وعاصمتها، وشكر الجميع على حسن الاستقبال، وكان مطلع هذه القصيدة هو:

طر بنا إلى رحلة فاخره

فكان القدوم إلى القاهره

بلاد تدل بمجد طريـ

ـف، وتسبي بساحاتها العامره

ثم يذكر بعض المشاهدات هناك، قائلا:

أبوالهول فيها يروع الزما

ن، وأهرامها عينها الساهره

وأزهرها الرحب ملء الفضا

ء، ينير بأقسامه الزاهره

وجامعة هي ورد الشبا

ب، تفيض ينابيعها الطاهره

بها قاعة روعة الزائـ

ـرين، تحار لأوصافها الذاكره

إلى أن ينتقل إلى خارج العاصمة، فيتحدث عن الأقصر والكرنك ووادي الملوك، وكل المعالم التي شاهدها الوفد الزائر، وأبدى إعجابه بها.

ثم يصف الأهالي، فيقول:

وكم ذا بمصر من المدهشا

ت، تجيش بها الأنفس الشاعره

ويكفيك منها سجايا الكرا

م، بنيها، المهذبة الساحره

لسانهم الشهد عند الحديـ

ـث، تساموا عن اللفظة النافره

ثم ينهيها بتحية الختام قائلا:

بني النيل إنا لمسنا الودا

د، برغم زيارتنا العابره

وسوف تقدر هذا الكويـ

ـت، وتغدو لإحساسكم شاكره

وهذي العجالة زمر الإخا

ء، وفيها تحيتنا العاطره

ولا تعليق لنا على هذه القصيدة التي عودنا الأستاذ الشاعر على مثيلاتها، وهي بتمامها واردة في ديوانه المطبوع تحت عنوان «شعر أحمد السقاف».

***
وفي نهاية هذه المسامرة، ينبغي أن نشير إلى أمر مهم جاء ذكره في القرآن الكريم، فالرحلة التي عبرت عنها الآية الكريمة التي سوف تأتي هنا أخذت لفظ السير في الأرض، ولا شك في أن ذلك مقصود به أن الرحلات قد لا تكون لمجرد المصالح، بل قد تأتي للتأمل في ملكوت الله عز وجل القائل: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير) (سورة العنكبوت الآية رقم 20).

فلنتأمل في آيات ربنا، وفيما خلق في هذه الدنيا، وفي هذا من العبر ما فيه.

Advertisements
Advertisements