سيف الحموري - الكويت - السبت 21 يناير 2023 10:06 مساءً - هل كنت لتصدق لو قيل لك إن الطالب الكويتي سعد الطامي سيكون أول عربي يلقي كلمة الخريجين في كلية إليوت للعلاقات الدولية التابعة لجامعة جورج واشنطن والذي كان يعاني «تأتأة وصعوبات في التعلم» منذ المرحلة الابتدائية؟
في الواقع هذه هي الحقيقة، ذلك الشاب الذي أبهر العالم وهو يلقي كلمة غير مسبوقة شكلا وموضوعا تغلب على صعوبة في النطق ونوع من صعوبات التعلم يعرف بفرط الحركة ونقص الانتباه كانا يلازمانه منذ الصغر.
رغم ما عاناه صغيرا وكبيرا بلغ سعد ذلك المبلغ بفضل أبوين تفانيا وضحيا وعملا بدأب لتنشئة الأبناء كأفضل ما تكون التنشئة وبرعاية معلمين أحبوا الكويت وأخلصوا لها فعملوا من أجل فلاح أبنائها دون كلل أو ملل.
إنها قصة ملهمة.. موضوعها سعد الطامي وأبطالها والدان ومعلمون تكاملت جهودهم ليرسموا معا صورة جميلة لنجاح طالما لهثت كل الاستراتيجيات التعليمية من أجل تحقيقه.. إليكم القصة التي حصلت «كونا» على تفاصيلها من سعد الطامي نفسه:
ولد سعد لأسرة متوسطة الدخل تعمل والدته اختصاصية اجتماعية ووالده حاصل على دكتوراه في الإدارة التربوية وجده لأبيه كان عضوا في مجلس الأمة وشغل منصب رئيس اللجنة البرلمانية للشؤون الداخلية والدفاع.
درج سعد على سماع نقاشات جده وحواراته وأحيانا سجالاته مع ضيوفه وشرحه لهم ما يجري من حولنا وفق ما يتوافر له من معلومات فنشأ في بيئة سياسية أخذت بخطام شخصيته.
عندما التحق بالمرحلة الابتدائية اشتكى معلموه من فرط حركته رغم إشادتهم بذكائه وتفوقه فسلك معه الوالدان مسلكا تربويا كان له عظيم الأثر في التغلب على تلك الصعوبة.
ولم يكن فرط الحركة المشكلة الوحيدة التي يعانيها بل كانت لديه تأتأة لاحظتها معلمته الفاضلة نورة القحطاني، فتعاملت معه بقلب الأم الحنون والمربية الرؤوم فظلت تدعمه وتوجهه لتأخذ بيده للخلاص من هذه المشكلة.
انتهجت نورة نهج المعالجة الناجعة، فرشحته وهو ابن الصف الأول ليكون عريف حفل التفوق بالمدرسة، وهو ما عارضته الإدارة متعللة بصغر سنه، ولكن المربية الفاضلة تمسكت برؤيتها قائلة لهم بثقة مطلقة «أنا أراهن عليه»، فوافقت الإدارة وهي تتوقع فشله.
كتبت نورة الكلمة لسعد وأخذت تدربه عليها، فكان النجاح حليفهما، ورفع سعد الرأس وأدى الكلمة بطريقة أبهرت الحضور وضربت المثل للمعلمة التي تؤمن بقدرات تلاميذها وتعمل بجد لتخليصهم من مشكلاتهم.
على الشق الآخر عمل الوالدان بروح الفريق، فالأم تكفلت بالعمل للتغلب على صعوبة التعلم بوضع برنامج تتغلب من خلاله على أعراض المشكلة والأب حمل على عاتقه التعامل مع التأتأة.
دفع الأب سعد نحو تحدي ذاته والإعلان عن نفسه بشكل فاعل وعملي ومسؤول فبدأ معه بإشعاره بأهمية المشاركة الدورية في الإذاعة المدرسية، فكان سؤاله اليومي على مائدة الغداء «ماذا قدمت اليوم في الإذاعة؟».
من هذا السؤال اليومي رغب الوالد في وضع سعد موضع المسؤولية عما يقدم وكان يكرر على مسامعه صباح مساء «تحدث.. شارك.. ناقش»، ليختار الموضوع ويصوغه ويقدمه والأخذ بزمام المبادرة والاعتماد على النفس والمضي قدما في طريق التخلص من التأتأة.
في الصف الرابع فوجئ سعد بوالده ذات صباح يهاتف الإعلامي غالب العصيمي الذي كان مسؤولا في تلفزيون الكويت لإشراكه في برنامج تلفزيون الأطفال الذي كان يعرض على القناة الأولى، وهو ما رحب به العصيمي فصار سعد أحد أعضائه.
أثمرت جهود الأسرة والمدرسة وتلفزيون الكويت، فلمع نجم سعد حتى ان مديرة إدارة الأنشطة في منطقة الأحمدي التعليمية وقتها كانت تطلبه للمشاركة في المناسبات التي تنظمها وكذلك رئيسة قسم الخدمة الاجتماعية في المنطقة «المربية الفاضلة رمز الزمن الجميل» بيبي رمضان.
في العام 2018 وبعد قضاء سعد سنتين بالمرحلة الجامعية في جامعة توليدو بأوهايو وحصوله خلالهما على تقدير ممتاز عانى بسبب صعوبات في النوم، فلجأ إلى طبيب متخصص بمستشفى الجامعة فشخص حالته.. إنه يعاني فرط الحركة ونقص الانتباه، وهي إحدى صعوبات التعلم.
بعدما علم سعد بحالته فكر في طريقة رقيقة يعلم بها والدته مراعاة لمشاعرها، وبعد تردد اتصل بها وأخبرها فردت بطريقة طبيعية «أعلم».
صدمه رد الأم فقال متعجبا «نعم؟»، ردت «علمت ذلك من بداية دراستك بالمرحلة الابتدائية وقرر الطبيب وقتها إعطاءك حبوبا ولكنني رفضت وتكفلت ببذل كل الجهد اللازم كي تتغلب على مظاهرها، وهو ما حدث على مدى كل مراحلك الدراسية».
«كم أنت عظيمة يا أمي» قالها سعد في نفسه ثم أكمل حواره معها «بالفعل لقد نصح الطبيب الحالي بتناول أدوية أيضا ولكنني لن آخذها.. أعرف الآن كيف أتعامل مع حالتي وهذا نصف الحل» فثمنت الأم قراره.
قرأ سعد عن حالته وعرف متطلبات التعامل مع أعراضها.. بدأ بضبط ساعات عمله ونومه خلال اليوم، فاشترى ساعة مخصصة بالأساس للطبخ ليضبط عليها وقت مهماته وجعل دفتر الملاحظات رفيقا له ليحدد ما يجب عليه فعله والوقت المخصص له.
ضبط بندول حياته ليوائم بين متطلبات الدراسة وحاجته إلى قسط وافر من النوم فنجح واستطاع إنهاء دراسته فائقا ليبلغ ذروة ذلك النجاح بالحصول على البكالوريوس ومن ثم الماجستير وإلقاء كلمة الخريجين الشهيرة.
حصل سعد على بكالوريوس العلوم الإدارية في تخصص التمويل من جامعة توليدو بامتياز مع مرتبة الشرف مع حصوله على علامة «بيتا غاما سيجما» التي تضم مجتمع الشرف الأكثر عراقة لطلبة العلوم الإدارية وهي مخصصة لأفضل 10% من الطلبة في أفضل 5% من كليات الشؤون الإدارية على مستوى العالم.
بعد حصوله على درجة البكالوريوس شرع سعد في تكملة مشواره لنيل الماجستير في تخصص العلوم السياسية الذي كان يهواه منذ الصغر فاتجه إلى واشنطن واختار الالتحاق بجامعة جورج واشنطن.
استحوذت تلك الجامعة على لب سعد لتميز موقعها وتوفيرها طاقما تدريسيا مميزا وجلسات نقاشية مع كبار الساسة الأميركيين علاوة على تخريجها عددا كبيرا من الديبلوماسيين الأميركيين الذين عملوا في الكويت ومن بينهم 5 سفراء، ولذا يطلق عليها «المغذي الأكبر للخارجية الأميركية».
التحق سعد بكلية إليوت للشؤون الدولية التي تعج بكبار عرابي السياسة الأميركية ضمن ما يربو على 250 دارسا من كل أنحاء العالم وأخذ ينهل من علمها ويتفاعل مع مجريات الحياة العلمية فيها حتى صارت جزءا من شخصيته.
أنهى سعد مقررات التخرج، وأثناء ملء نموذج التقديم لكي يدرج في قائمة الخريجين فاجأه سؤال: هل ترغب في الترشح لإلقاء كلمة الخريجين؟ فلم يتردد في وضع علامة الإيجاب أمامه.
بعد خضوع طلبات الخريجين لإلقاء الكلمة للتقييم على يد 6 أساتذة وفق 4 معايير تتضمن التفوق الأكاديمي والخطابة وتزكية المعلمين والأنشطة الطلابية، تسلم سعد بريدا إلكترونيا باختياره، مطالبا إياه بتأكيد القبول خلال 24 ساعة، وهو ما قد كان ليقوم بالمهمة التي لم يسبقه إليها أي عربي.
خطط سعد لكلمته، فاتجه إلى دراسة آخر 10 كلمات لخريجي جامعته ووجد أنها تقليدية مقروءة، فقرر ألا يفعل ذلك كما وجد أنهم يستخدمون لغة موغلة في الرسمية، فاختار أن تعبر كلمته عن المشاعر الحقيقية التي تعتمل داخله.
تنازع سعد خلال إلقائه كلمته شعوران سعادة بالتخرج وحزن لتركه تلك الحياة الدراسية الثرية بالأحداث والوقائع الرائعة التي جعلته يضع في قرارة نفسه ألا يتركها، حتى أنه حدد معالم خطته لنيل درجة الدكتوراه ليظل ملتصقا بها.
قال سعد كلمته، فانتشرت عبر وسائل التواصل في كل أنحاء الوطن العربي فخرا بما قيل واحتفاء بما ذكر وحظيت بتفاعل واسع لم يتوقعه سعد نفسه وتوالت عليه كلمات الثناء التي يستحقها من قيادات سياسية وشعبية على الصعيدين المحلي والدولي.
دعمت عميدة الكلية أليسا أيرس سعدا بشكل كبير قبل الكلمة وبعدها كما أبدى رئيس لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب غريغوري ميكس إعجابه بالكلمة ومازحه قائلا «أعرف أنك كنت مذيعا في برنامج أطفال.. أريدك أن تعلمني كيف أتعامل مع بعض زملائي في الكونغرس».
لم تنته قصة سعد بل بدأت.. فحقيق بنجاحاته ورؤاه أن تكون أساسا لنموذج يمثل الكفاءة الوطنية الشابة التي تعول الكويت عليها لترجمة الإنجازات العلمية إلى واقع ملموس يسهم بشكل إجرائي في حل مشكلات الوطن.. إنها قصة تفتح آفاق الأمل وتضع المستحيل موضع الممكن.