الارشيف / اخبار الخليج / اخبار الكويت

السعادة.. بين الشاعرين صقر الشبيب والهادي آدم.. بقلم: د. يعقوب يوسف الغنيم

  • سيف الحموري - الكويت - الخميس 7 أبريل 2022 07:48 مساءً - صقر أنكر وجود السعادة في الحياة واعتبرها اسماً مشهوداً لمسمى غير موجود وأكد في قصيدته أنه لم يرَ في الدنيا غير الشقاء المتمكن المعاند لبني الأرض كلهم
  • صقر بدا غير واثق في أن واحداً من الناس قادر على التمتع بالسعادة وينفي ذلك معلقاً عن الخلق جميعاً في قصيدة عنوانها «أمع الحياة سعادة؟»
  • الهادي يؤكد أن السعادة مطلب يسير لولا الملمات المحيطة بنا والحصول عليها ليس صعباً وامتلاكها يكون بتحلي الإنسان بالصفات الطيبة
  • الهادي حدّد مقومات الحصول على السعادة بإسعاد الآخرين ودفع الحزن عن المحزونين وإقامة الإخاء المحض بين الناس والعطف على الصغير

لي اهتمام شديد بقراءة الشعر قديمه وحديثه، والتنقيب في قصائده عن المعاني اللطيفة، والألفاظ الشائقة، ولقد مرت بي خلال قراءاتي هذه دواوين شعرية كثيرة من مختلف العصور التي مرت بها الأمة الإسلامية العربية. وأنست إلى قراءة أشعار الشعراء الذين عبروا تلك العصور دون أن اختار عصرا بعينه لأننا نجد الشاعر المجيد في كل عصر يتقدم على أقرانه حتى ولو كانت لهم مكانة شعرية مرموقة. ولقد اهتم علماء اللغة العربية ورواة الشعر العربي بجمع هذه الدواوين، وأضافوا إليها بعض المجموعات الشعرية المتنوعة مثل: المفضليات للمفضل الضبي والأصمعيات لعبد الملك بن قريب الأصمعي، ومن غير هذين الرجلين وصلنا كثير من تراث الشعر العربي المعجب الذي لا يمل المرء قراءته والتمثل به.

وفي عصرنا الحديث أعداد كثيرة من شعراء العربية نراهم منتشرين في الوطن العربي من أقصاه إلى أقصاه، فنجد لهم شعرا عالي المكانة يمتلئ المرء إعجابا به، ويحرص على قراءته وحفظه.

وما أريد أن أتطرق إليه في حديثي هذا يتعلق بشاعرين معاصرين هما صقر الشبيب من الكويت، والهادي آدم من السودان، ولكل واحد منهما شعر غزير متنوع الأغراض. وقد وجدت لكل واحد منهما قصيدة جميلة تتحدث عن سعادة الإنسان، وأهميتها، وكيف يجدها؟ وقد كان شاعر الكويت مصرحا باسم السعادة، ذاكرا لها بصورة مباشرة، ولكن شاعر السودان كان يتحدث عنها تلميحا في قصيدة له لا تخلو من جمال في اللفظ والمعنى.

وأنا هنا في سبيلي إلى بيان ما يمكن بيانه عن هذين الشاعرين المجيدين، وقصيدة كل واحد منهما.

صقر الشبيب شاعر كويتي عريق، مرموق، ولد في سنة 1896م، وكف بصره صغيرا، ولكنه بدأ دراسته غير عابئ بهذه العاهة التي تعطل غيره عن طلب العلم في زمنه، ذلك أنه اتجه إلى الدراسة عندما وصل إلى السن التي تؤهله لذلك. فحصل على علم غزير أفاده به علما وثقافة، وألم - كثيرا - بكل ما يتعلق باللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة، كما حفظ شعرا أهّله للوصول إلى مرتبة عالية في نظم الشعر عندما شدا به، ثم انطلق في مجاله إلى آفاق واسعة.

له ديوان شعر مطبوع بعناية الأستاذ أحمد البشر الرومي، وقد نشرته بعد ذلك مؤسسة عبدالعزيز سعود البابطين للإبداع الشعري في طبعة فاخرة أضيفت إليها قصائد لم ترد في الطبعة الأولى.

تحمل هذا الشاعر في حياته معاناة كبيرة، وأحاطت به ظروف قاهرة، ومع ذلك فقد كان في بداياته مشاركا في الحركة الثقافية الكويتية التي بدأت بشائرها آنذاك، وأنشد قصائده في مناسبات متعددة، وفي موضوعات كثيرة، وامتاز شعره بالجزالة، وقوة السبك، وروعة المعاني، وأكثر فيه من التطرق إلى الحكمة والنصح والتوجيه فكان يقدمها كلها للمجتمع الذي عاش فيه إلى أن قرر في السنوات الأخيرة من عمره، أن ينزوي في منزله بعيدا عن مخالطة الناس لأسباب رآها تحتم عليه ذلك.

ونظرا لمقدرته على الإبداع الشعري، وتنوع أغراض شعره، فقد نال مكانة طيبة بين القراء والمستمعين لشعره في الكويت وخارجها. ولايزال مذكورا بعد وفاته في سنة 1963م.

ونعود هنا إلى قصيدة صقر الشبيب التي قالها عن السعادة، وهي تعبر أصدق تعبير عن مستوى شعره، وعن الحكمة التي امتاز بها، وعن التشاؤم الذي عرف به وساد الأبيات الأخيرة من قصيدته هذه الخاصة بالسعادة، حتى لقد أنكر وجود هذه الطبيعة الإنسانية التي يشعر بها كثير من الناس. ولكنه اعتبرها اسما مشهودا لمسمى غير موجود.

ثم يؤكد أنه لم ير - في الدنيا - غير الشقاء المتمكن المعاند لبني الأرض كلهم. ومع ذلك فإنه يعجب من أننا - كما قال - وقد علمنا بالشقاء، وعانينا من وطأته علينا، لا نزال نتمنى الزيادة من البنين وكأنما نريد أن نكسبهم شيئا من الشقاء الذي نعانيه. يقول:

ليس في الأرض من طريق يؤدي

سالكيه أوْ بعضَهم للسعادة

فلها اسمٌ بينَ الأنامِ شهيدٌ

ومُسمَّاهُ مُستَحيلُ الشَّهادَهْ

ثم يذكر ما يستغربه من الناس في حبهم للمزيد من النسل، وما يترتب عليه من عقبات فيقول:

وعلى العلمِ بالشَّقَاء ترانا

نتمنَّى منَ البنينَ الزِّيادَهْ

أمُحِبٌ أولادَه الوالدُ المـسـ

كينُ أَمْ كانَ مُبغِضاً أولادَهْ؟

وعلى الرغم من أن الشاعر يرى هذا الوالد المكثر من البنين مسكينا في البيت السابق ذكره، فإنه يعيب عليه ذلك الاهتمام بزيادة النسل، وهذه الرغبة الملحة في الزيادة عند بعض الآباء مستنكرة عند صقر الشبيب ويعتبر أنها ليست دليلا على محبة الأولاد:

إنْ يكُنْ والدُ البنينَ مُحبّاً

فلماذا قد فكَّ بابَ الولادَهْ

ولكنه يقول:

وأَرَانَا مُنذُ الولادةِ حتّى الْـ

مَوتِ في لا إرَادَةٍ أندَادَهْ

لو مَلَكتُ التَّصَرُّفَ الحُرَّ لم أخْ

ضَعْ لطبعي وقد عَلِمتُ فسَادَهْ

لا ولا مِلتُ عن طريقِ حِجَائي

بعدَ عِلمِي صَلاحَهُ ورَشَادَهْ

ويبدو أن شاعرنا صقر الشبيب كان غير واثق في أن واحدا من الناس قادر عن التمتع بالسعادة، بل هو ينفي ذلك في قصيدة له أخرى عنوانها: «أمع الحياة سعادة» ومطلعها:

ما كنت أغبط مذ أَرِبت سوى الذي

ما كان قط ولن يكون مدى الأبد

أما الألى كانوا فلست بغابطٍ

منهم على شيء يفوز به أحد

وهكذا أبعد السعادة عن الخلق جميعا في رأي حاسم منه، وكذلك كان طبع شاعرنا هذا.

> > >

أما الشاعر السوداني الهادي آدم، فهو كما أشرت في البداية من أبرز شعراء السودان بل والوطن العربي كله، ودلالة انتشار شعره أننا نراه متنوعا يتحدث فيه عن بلاده وعن غيرها من بلاد العرب، فهو يرثي جمال عبدالناصر في قصيدة نشرت في القاهرة سنة 1973م، ويقول قصيدة جميلة في لبنان. وأخرى في دمشق، ويذكر الغواصة الإسرائيلية التي أغرقتها مصر في سنة 1965م عند دخولها إلى المياه الإقليمية المصرية، ويتحدث عن حال العروبة بعد نكسة حزيران 1967م، ولا ينسى الأردن إلى جانب كثير من القصائد المماثلة.

ولد هذا الشاعر في سنة 1927م، وتوفي في سنة 2006م، وكان قد تخصص في علوم اللغة العربية والدراسات الأدبية، حيث تلقى علومه الجامعية في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، ولذا فإن بيني وبينه صلة نسب علمية، فكلانا درس في هذه الكلية العريقة، وقد حصل فيما بعد على درجة الدكتوراة الفخرية من إحدى الجامعات السودانية، واشتغل بالتعليم طوال حياته، إلى جانب نشاطه الأدبي المعهود.

وللهادي آدم شعر عرفه الناس على نطاق واسع في خارج بلاده عندما غنت له كوكب الشرق أم كلثوم أغنية نالت إعجاب الجميع، ولا تزال تتردد عبر أجهزة الإعلام المختلفة، وعلى السنة المعجبين.

وكان لسبب قول الشاعر لها، وتقديمه إياها إلى أم كلثوم حكاية كتب عنها كثيرا، وليس هذا مكان ذكرها، فهي - دائما - بين يدي من يبحث عنها في مضان أخرى.

هذه الأغنية هي التي جعل مطلعها قوله:

أغداً ألقاك يا خوف فؤادي من غدٍ

يالشوقي واحتراقي في انتظار الموعد

آه كم أخشى غدي هذا وأرجوه اقترابا

كنت أستدنيه لكن هبته لما أهابا

وأهلت فرحة القرب به حين استجابا

هكذا أَحْتَمِلُ العمر نعيماً وعذابا

مهجة حَرَّى وقلباً مَسَّه ُ الشوقُ فذاباوقد لحن هذه القصيدة (الأغنية) عبقري الألحان الفنان البارز محمد عبد الوهاب، الذي يبدو من أدائه فيها أنه قد اهتز كثيرا لصياغتها ومضامينها، وتميزها بموسيقى الشعر، فأبدع في تلحينها، واجتمع القول والنغم والصوت البديع فقدمت أم كلثوم عملا رائعا كعادتها فيما تقدمه من روائع.

وقد أثارت انتباهي فقرة باهرة من فقرات هذه الأغنية أجاد فيها الهادي آدم كل الإجادة، فقد انطلقت من قريحة متفتحة على الشعر الراقي، فعبر فيها عن شعوره المتدفق تجاه المحبوب، فجاء بما يتوقف أمامه المستمع إعجابا وتقديرا، يقول:

هذه الدنيا كتاب أنت فيه الفِكَرُ

هذه الدنيا ليالٍ أنت فيها العُمُر

هذه الدنيا عيون أنت فيها البصرُ

هذه الدنيا سماء أنت فيها القمر

فارحم القلب الذي يصبو إليك

فغدا تملكه بين يديك

ولكنه يختم بداياته بما هو أملك للقلوب والأسماع، حين يُعبر عن أمله الذي أراد أن يبثه في نفس المحبوب، فقال:

وغداً تأتلق الجنةُ أنهاراً وظلاً

وغداً نسمو فلا نأسى على ماضٍ تولى

وغدا نزهو فلا نعرف للغيب محلاَّ

وغدا للحاضر الزاهر نحيا ليس إلا

قد يكون الغيب حُلواً

إنما الحاضر أحْلى

إذن فنحن أمام شاعر قوي الشعر رائع التصوير، متمكن من أدواته، له عبارة آسرة، وخيال خصب فاتن، فماذا عن موضوع السعادة الذي أشرنا إليه، وبينا أنه سارع إلى الحديث عنه مع شاعرنا صقر الشبيب على غير اتصال بينهما؟

> > >

دخل الشاعر السوداني إلى موضوعه من مدخل مختلف عن المدخل المباشر الذي وجدناه في شعر صقر الشبيب، فإن للهادي آدم قصيدة عنوانها: «إنها غير بعيد» وردت في ديوانه: «نوافذ العدم» المنشور في سنة 1969م.

وهو يطرح في مطلعها بعض التساؤلات، ثم يعلق عليها، فنرى في حديثه:

إن كانت دنياكم هذه دنيا سلام وسرور دائم، وابتسام لا ينقطع، فلماذا يزيح الظلام النور؟ ولماذا تلد النار الرماد؟ ما الذي يجعل الطفل الصغير يختار النواح، وهو بعد لم يعرف للسأم معنى؟

ثم يتساءل - مرة أخرى - عن كل ذلك بقوله:

- خبروني إن تكونوا تعلمون.

وبعد ذلك يقوم بضرب الأمثلة، فيذكر سادة العالم الماضين الذين كانوا يمتلكون الكنوز، ويستطيعون أن يحققوا كل ما في أنفسهم من رغبات، ولكنهم لم يصلوا إلى قمة السعادة المرتجاة التي تعبر عنها البسمة حين ترتسم على شفاه السعداء، وعنها يقول:

إن تك البسمة شيئاً يُشترى

لاشتراها باللآلي الأثرياء

مثل قارون وفرعون الكبير

من شروا بالمال ما لا يُشترى

قد شروا كل كبير وصغير

وشروا حتى الضمير

دعك مما لذ في الأرض وطاب

من طعام وشراب

وتزاحمت في ذهنه الأفكار والتساؤلات حتى وصف حاله، وهو يتأمل ما مر به ويقول:

ثم ولَّتْ، ثم عادتْ، ثم ولت وأنامُطرقٌ أسأل في صمت مريب

مثلما يسأل مرضَاهُ الطبيب

وتلقيت الجواب:

هو: سر الله في الكون العجيب

ثم يمضي في هذا النظام الذي يسيطر عليه شيء من التشاؤم، ومن أجل ذلك فإنه يتساءل بعد كل ذلك:

- ثم ماذا؟

وهنا يرد قائلا بأن هؤلاء الذين ذكرهم، لم ينفعهم ما ملكوه من أموال، وما تمتعوا به من عروض الدنيا، بل إنهم:

عجزوا أن يَسعدوا بين الأنام

مثلما يسعد عصفور صغير

أخلدوا لهم في جنح الظلام

مثلما يخلد خفاش ضرير

وجدوا كل المنَى غير السعادة

ويمضي في هذا السبيل مؤكدا أن السعادة مطلب يسير لولا الملمات التي تحيط بنا، وهذا المطلب لا يعدو كلمة:

- عمقها سين وعين ثم دال.

فما هي السعادة في رأيه؟ إنه يتساءل:

أهي السر الذي يدفعنا نحو العمل؟

ثم لا شيء سوى هذا العمل.

أم هي الحظ الذي يبسِم إن شاء، وإن شاء خذل؟

وأخيرا فإنه يقول لسامعه:

أتريد السعادة؟ أتراها لازمة لك في حياتك حتى يهدأ بالك، وتستقر أمورك؟ إذن فاستمع إليَّ:

انتظرها عندما تشقى لخير الآخرين

عندما تلتقط الدمعة من جفن الحزين

إنها سر الإخاء

والإخاء المحض مفتاح السلام

وقوام الحب في هذي الدنا

وشعاع يملأ الكون سنا

سر إسعادي وإسعادك

يأتي من هنا

هكذا أوصلنا الهادي آدم إلى تعريفه للسعادة، لقد بدأ بدايات توضيحية ولكنها مما لا بد من ذكره، حتى يصل إلى هذا الختام الجميل بعد أن طوّف بنا في معالم الحياة المختلفة، وبين لنا أن الحصول على السعادة ليس صعبا، وأن أمر امتلاكها ليس محالا بشرط أن يتحلى الإنسان بالصفات الطيبة التي ذكرها في آخر المطاف، وهي إسعاد الآخرين ودفع الحزن عن المحزونين، والإخاء المحض يشيعه بين الناس وهو معهم. هذه هي أسرار السعادة كما توصل إليها إثر تجربته في الحياة.

> > >

هذه هي السعادة كما رآها كل من الشاعرين اللذين تحدثنا في هذا المقال عنهما، وعن موقف كل واحد منهما من السعادة وقد رأينا فرقا كبيرا بين موقفيهما، لأننا نجد في قصيدة صقر إمعانا في التشائم بل إنه من أول بيت فيها يعلن أنه لا من سبيل في الأرض يؤدي إلى السعادة، ثم يرى أن الإنسان يقترف بيديه ما يؤدي إلى تعاسته. وهذا الموقف واضح في شعر شاعرنا صقر الشبيب، نراه في كثير من القصائد، وليس بالضرورة أن ذلك يتعلق بأمر السعادة.

أما الهادي آدم فقد كان أكثر تسامحا، وهو وإن أنحى باللائمة على أولئك الطغاة الذين لا تهمهم راحة الناس، ولا يرأفون بفقير أو يرفدون محتاجا إلا أنه وضع أمام مستمعيه طريق السعادة، فأوضح أنها تكون بإشاعة الرفق بالمحتاج والعطف على الصغير ومسح دمعة الحزين، والاختلاط مع الناس بروح السماحة والرغبة في العيش بهدوء بال وراحة نفس.

وكل هذا ما وجدنا عند هذين الشاعرين.

Advertisements
Advertisements